أعلن رئيس حزب اللّه في إحدى خطبه الأخيرة عن استعداده للمزيد من التّضحيات قائلا : quot;... مهما عظمت التّضحيات فنحن خرجنا من رحمهاquot;.
ما معنى هذه العبارة المروّعة : الخروج من رحم التّضحيات؟
لنترك تحليل هذه الصّورة الغريبة عن لغة السّياسة، وتحليل الإيحاءات النّرجسيّة النّابعة منها إلى مجال دراسة شخصيّة هذا الزّعيم، فالمجال الآن لا يتّسع لتحليل الشّخصيّات الفرديّة، بل لتحديد المسؤوليّات وتبيّن المواقف الجماعيّة المهلّلة أو المتباكية أو المتملّصة من تحديد المسؤوليّات. ولنتبيّن مدلولات هذا التّصوّر وتبعاته والخيال السّياسيّ الذي ينتجه في السّياق الرّاهن، سياق التّدمير اليوميّ للبنان والقتل اليوميّ للمدنيّين.
هذه الجملة لها دلالة على طبيعة المقاومة التي يتزعّمها هذا الخطيب. إنّها مقاومة لا تضحّي من أجل الدّفاع عن الوطن واستقلاله وحرمة أهله، بل تعتبر التّضحية أصلا وأساسا تنطلق منه وتعود إليه : إنّها تضحّي من أجل التّضحية، إنّها تدافع عن الوطن من أجل التّضحية ولا تضحّي من أجل الوطن، وهذا هو الإشكال في هذه المقاومة : إنّها ولدت quot;من رحمquot; التّضحية، ولدت من رحم الرّغبة في الموت، وستعود إلى هذا الرّحم الذي تعجز عن الخروج منه على نحو مرضيّ يتّخذ شكلا ثقافيّا. التّضحية لا الحياة هي الأصل والمآل في إيديولوجيا المواجهة المسلّحة هذه، وواجب الشّهادة لا الحقّ في الحياة هو الأصل والمآل فيها.
إنّ بريق الحنكة السّياسيّة والتّعالي عن الاعتبارات الطّائفيّة والتّحالفات المشبوهة، لن يخفي عنّا الهذيان التّبشيريّ الذي يطفو من حين إلى آخر على السّطح في خطب السّيّد حسن نصر اللّه، البطل الجديد لآخر تقليعة من تقليعات المقاومة الإسلامويّة. ولن يحجب عنّا هذا الهذيانَ الإرهابُ الفكريّ الممارس على كلّ من يشكّك في خيارات هذا الزّعيم وفي طبيعة تنظيمه وطبيعة مقاومته، والتّبكيت والتّحذير الذي يلقاه ممّن نسمّيهم مثقّفين أو نخبا، أو ممّن نفترض أنّهم يلعبون هذا الدّور.
يعد السّيّد نصر اللّه الجماهير بأن يزيل الكيان الإسرائيليّ من على الخارطة، ويتنبّأ بانعدام المستقبل لهذا الكيان. إنّه يبشّر بالخلاص التّامّ من هذا العدوّ. وهذا التّبشير يقوم على بناء واقع خياليّ آخر غير الواقع الجغراسياسيّ الذي نعرفه : كأنّ إسرائيل قصر من الحلوى، أو دولة من الورق يمكن أن يعصف بها ويدمّرها مجرّد تنظيم مسلّح. والواقع الذي يهدمه نصر اللّه ليبني عليه قصر أوهامه هو ممّا لا يخفى على أيّ عاقل : إسرائيل دولة قويّة متغطرسة مستميتة في الدّفاع عن نفسها وليست كيانا، ولن تزال من الخارطة، بل هي التي يمكن أن تزيل من الخارطة وأن تدمّر، وبعد تفجيرات 11 سبتمبر وتنامي حركات الإرهاب الإسلامويّ، لن يزداد الغرب إلاّ دعما لإسرائيل مهما اقترفت حكوماتها من جرائم، ومهما كانت الواجهة الدّبلوماسيّة التي تظهرها.
ما يعنيه هذا التّبشير هو أنّ السّيّد نصر اللّه لا يريد الدّفاع عن حرمة المواطنين اللّبنانيّين وعن التّراب اللّبنانيّ، بل يريد تحقيق هدف أقصى غير واقعيّ، ما كان له أن يتحقّق بانسحاب إسرائيل من الجنوب اللّبنانيّ، وما يمكن له أن يتحقّق بمجرّد عمليّة تبادل للأسرى. إنّه يريد أن تبقى المقاومة المسلّحة وتزدهر لكي يحقّق حالة التّطهّر التّامّ من هذا العدوّ. ولا يمكن أن يتحقّق هذا الهدف الأقصى إلاّ بالتّضحية، ولا يمكن أن تتحقّق التّضحية إلاّ بالارتماء في أحضان الموت، لأنّ الموت وحده يحقّق الخلاص الأسمى من شوائب الواقع وبراثن العدوّ، ولأنّه المطلق الوحيد الذي يضاهي مطلق الفكرة التّبشيريّة.
لا شيء يمكن أن ينبع من هذه التّبشيريّة القائمة على الوهم الممزوج بالحقد سوى الاستسلام إلى دوافع الموت، واعتبار الدّمار وحده مخلّصا ومطهّرا وداحرا لدوافع الشّعور بالإثم. ولكنّ المنافع الجانبيّة التي يحقّقها منطق التّبشير والتّدمير في الوقت نفسه، لا يمكن أن تكون خافية : آلة التّضحية العمياء ستمكّن الزّعيم من أن يظلّ زعيما، وستجعله يبني مجده النّرجسيّ العظاميّ على جثث المواطنين اللّبنانيّين، وستظلّ يوطوبيا الأمّة الإسلاميّة بفضل هذه الآلة شبحا عملاقا يلاحق الدّولة اللّبنانيّة الحديثة.
المقاومة التي تجعل تقديم الأضاحي غاية لا وسيلة لدحر المحتلّ مقاومة مريضة شوهاء، لا تواجه العدوّ بل تريد أن تثبت شراسته، لا تدافع عن الحقّ في الحياة بل تدافع عن واجب الموت وتدفع إلى الموت، لا تضحّي من أجل الحياة بل تستسلم إلى المتعة بالتّضحية، لا تصدّ وحشيّة الجلاّد بل تجرّ الجلاّد إلى المزيد من الوحشيّة، لأنّها تريد أن تنشر منطق الجلاّد والضّحيّة ولا تحاول الخروج من فكاكه.
المقاومة غير المرضيّة هي تلك التي تسعى إلى طلب العدالة بطريقة عادلة، ولا تسعى إلى تدمير الذّات والآخر، هي تلك التي لا تستمدّ شرعيّتها من عدالة قضيّتها فحسب، بل من عدالة السّبيل الذي تختاره في طلب العدالة. فالوسيلة ليست بمعزل عن الغاية، وليست شيئا ثانويّا مضافا إليها، بل هي من صلبها. وهذا الدّرس السّياسيّ الإيطيقيّ الحديث لم نستوعبه بعد، شعوبا وحركات تحرير ونخبا.
إسرائيل أخلّت بمبدإ التّناسب في ردّ الفعل وفي الدّفاع عن نفسها وعن جنديّيها المختطفين، وأنزلت عقوبة جماعيّة بشعب بأكمله دمّرت بناه التّحتيّة ومرافقه الحيويّة، ولم تحترم قوانين الحرب، فموقفها مدان قانونيّا وأخلاقيّا. إنّها تمارس فعلا إرهاب الدّولة لأنّها تتسبّب في مقتل المدنيّين وتشريدهم ولأنّ حكوماتها المتعاقبة تتجنّب الحلول الدّبلوماسيّة وتفضّل حلول العنف والقوّة العسكريّة، وتفضّل بناء الجدران العازلة على بناء عمليّة السّلام وثقافة السّلام.
ولكنّ حزب اللّه بإيديولوجيّته التّبشيريّة الإسلاميّة التي تفضح قرابته من تنظيم القاعدة رغم كلّ الاختلافات، يمارس إرهاب المجموعات تحت غطاء المقاومة اللّبنانيّة. إنّه يمارس الإرهاب الإسلامويّ لا لاستهدافه المدنيّين فحسب، بل لأنّه رغم كلّ التّصريحات والمراوغات التّكتيكيّة ينتصب دولة داخل الدّولة وبديلا عن الدّولة ولأنّه لا يعترف بالحلول السّلميّة ولا بالقانون الدّوليّ والشّرعيّة القانونيّة. ولنذكّر بأنّ الإرهاب خلافا للعنف، عمل لاقانونيّ لا يقف ضدّ القانون والدّولة، بل يريد أن يحلّ محلّهما على نحو عدميّ فيه يلتحم فيه التّبشير مع التّدمير.
من طبيعة الحشود المتجمّعة أن تتراجع نحو الطّفولة ونحو المواقف البكائيّة، وأن تهرب من مواجهة الواقع لأنّه مصدر انزعاج ، فتلوذ بأوهام الأب-الزّعيم المهدهدة ولا ترى إلاّ ما يراه الزّعيم الذي تتماهى معه، فيصبح بالنّسبة إليها بمثابة مثال الأنا كما يقول لنا فرويد. والزّعماء الذين يجرّون خلفهم الحشود من الطّبيعيّ أن يستميلوا هذه الحشود بأوهام النّقاء وأن يبشّروها بالنّصر الذي يملأ العالم عدلا بعد أن ملئ جورا، والقنوات العربيّة والصّحف الممجّدة لما يسمّى بالمقاومة اللّبنانيّة من الطّبيعيّ أن تعبّر عن رفض الحشود للتّفكير. إنّها منبر من لا فكر له.
أمّا أن تتورّط النّخب المثقّفة بمختلف طوائفها السّياسيّة في الدّفاع عن هذا الحزب وفي اعتباره مقاومة لبنانيّة، وأن تتظاهر من أجل لبنان حاملة صور حسن نصر اللّه وزعماء آخرين من نفس القبيل ومن نفس المرتبة، فذلك ما يدلّ على أنّ مثقّفينا ليست لهم مناعة تحميهم ضدّ التّبشير وضدّ الزّعماء المصابين بآفة التّبشير التّدميريّ. إنّهم لم يخرجوا من دائرة الأمّة والملّة، ولم يخرجوا من دائرة الوعي القبليّ القائم على مبدإ الانتصار لذوي الرّحم، أي الانتصار للأخ سواء كان quot;ظالما أو مظلوماquot;، والقائم على منطق التّحالف البدائيّ : حزب اللّه عدوّ إسرائيل، وعدوّ العدوّ صديق. أو لم تخرج بكلّ بساطة من منطق الإثارة والاستفزاز الطّفوليّ : حزب اللّه يتحدّى، يكفي أنّه يتحدّى، ولا يهمّ بعد ذلك مآل التّحدّي ولا ثمنه.
هؤلاء المثقّفون لا تهمّهم الضّحايا البشريّة المقدّمة فداء لحزب اللّه، بل إنّهم يفضّلون التّهليل السّياسويّ بالانتصارات الزّائفة على الدّفاع الإنسانيّ عن الضّحايا، ويبحثون في كلّ مرّة عن الزّعيم الحامي بدل البحث عن شروط تحقيق السّلام العادل والتّحول الدّيمقراطيّ الحقيقيّ.
إذا كان المثقّف هو ذاك الذي يذكّر بالمحتوى الإيطيقيّ للسّياسة وللدّولة، فإنّ عليه أن يرى الإرهابين معا، لأنّ كلاهما مدمّر : إرهاب الدّولة الإسرائيليّة وإرهاب المجموعات المسلّحة التي تعتمد العنف واللاّشرعيّة نهجا وفلسفة وسلاحا، وتعتمد حبّ الكره وحبّ الموت طاقة للتّعبئة الغريزيّة والعاطفيّة. المثقّف الذي يريد لعب دوره باعتباره مثقّفا هو الذي يدافع عن الشّعب اللّبنانيّ والسّيادة اللّبنانيّة، دون أن يردّد هذه اللّغة الخشبيّة المتكرّرة المدينة للعدوّ الصّهيونيّ، والدّاعية إلى المزيد من الشّراسة في التّصدّي له، مع تأجيل النّظر في quot;الخلافات اللّبنانيّةquot; وكأنّ هذه الخلافات ليست من جوهر القضيّة، أو كأنّ العدوّ لا يمكن أن يكون سوى العدوّ الصّهيونيّ.
نجح حزب اللّه نسبيّا في تلميع صورته بإدانته تفجيرات 11 سبتمبر ومعارضته تنظيم القاعدة وحرصه على تقديم نفسه في صورة لبنانيّة وطنيّة وفي صورة مقاومة تدافع على التّراب اللّبنانيّ. ولكن هل يختلف هذا الحزب في نزعته التّبشيريّة الطّوباويّة المذكورة وفي مبادئه السّياسيّة واستراتيجيّته عن حركات الإسلام السّياسيّ ذي الطّبيعة الفاشيّة اللاّديمقراطيّة؟ كيف يمكن أن ننسى أصوله التّيوقراطيّة وتتلمذ زعيمه الحالي على يد الخمينيّ؟ لماذا ننسى أنّه ينشر ألوية الامبرياليّة الجديدة النّاشئة في الشّرق الأوسط، إمبرياليّة الملالي التي عادت إلى تصدير نموذجها على نحو آخر، ملوّحة بالسّلاح النّوويّ؟
الحزب الذي يرتهن بأعماله الاستفزازيّة دولة وشعبا ويرتهن في تسميته الإسلام وإلهه، الحزب الذي ابتدع هذه المقاومة الشّوهاء التي تقضي على الذّات والعدوّ معا، لماذا لا نحمّله جزءا من مسؤوليّة الدّمار اللاّحق بلبنان، ولماذا لا ندينه على نحو سياسيّ صريح في بياناتنا وتعبيراتنا السّياسيّة التي تبقى بذلك أحاديّة الاتّجاه، ضيّقة الأفق، فلا نخاطب بها سوى أنفسنا.
عندما يلجّ الجنون بين طرفين متقاتلين، لا بدّ من طرف ثالث يذكّر بوجود شيء ثالث نفيس يتجاوز المتقاتلين، وهذا الشّيء الثّالث النّفيس هو القانون والشّرعيّة الأخلاقيّة. إنّ نخبنا لا تلعب دور هذا الدّور، دور الطّرف الثّالث، بل تدخل دوّامة القتال منتصرة لأحد الطّرفين، منتصرة للقتال نفسه ولدوّامة الحقد الجنونيّ الذي يحرّكه.
التعليقات