الكلمة للمرحوم هوبس، والذاكرة استدعتها بمناسبة ما يجري من تراجيديا حمراء في لبنان وفلسطين. وما يجري مقابل هذه التراجيديا من صمت متواطىء، وموافقة ضمنية، لا تشي.. لا يشيان إلا بموت الضمائر، وخراب الذمم، في أربعة أركان هذا العالم. أمريكا ترسل قنابل ذكية إلى إسرائيل، وكأن إسرائيل، التي هي عملياً، ثكنة عسكرية، وترسانة أسلحة، بحاجة إلى نوع جديد فتاك من السلاح. أمريكا ترسل هذا النوع الجهنمي، وهي تعلم جيداً، أنه سيكون من نصيب الأبرياء أولاً، والأبرياء أخيراً: من نصيب النساء والأطفال والشيوخ، بالتحديد والتأكيد. ومع هذا، ترسله، دون أن يرف لها جفن، أو تتحرك لها قصبة! فما دام كل ذلك يخدم أهدافها، فلا بأس من قتل المدنيين، ولا بأس من إرسالهم إلى القبور الجماعية الفقيرة، فقرَ حياتهم السابقة. هكذا هو العالم، للأسف. هذه هي أخلاقياته، وهذا هو منطقه: تمجيد وتعضيد الأقوياء، ولوم الضحايا، بتعبير إدوار سعيد. ألم يقُل جون بولتون، مندوب أمريكا في الأمم المتحدة، والمحامي للتذكير، بأنّه [ من الخطأ منح تكافؤ أخلاقي للمدنيين الذين يموتون كنتيجة مباشرة لأعمال إرهابية وحشية غايتها قتل المدنيين، والنتيجة التراجيدية المأسوف عليها لوجود مدنيين يقضون نتيجة لعمل عسكري يُقام به دفاعاً عن النفس. إن أنظمتنا الأخلاقية والقانونية تفرّق بين الأعمال (العسكرية) بناءً على النوايا الكامنة وراءها. وإنه، ببساطة، لا يستوي القول بأن الفعل الذي يستهدف، عن سابق إصرار وترصد، حياة المدنيين الأبرياء، قاصداً قتلهم، ويطلق الصواريخ، ويستخدم أسلحة متفجرة، وأعمالاً كالاختطاف... يمكن أن يقارَن بالنتائج المحزنة والمأسوف عليها الناتجة عن الدفاع عن النفس.. ] عن أي أخلاق وقوانين يتحدث هذا الرجل! إن من الكوميديا السوداء، أن يكون محامياً، وفوق ذلك أن يكون مندوباً لأمريكا في مؤسسة إنسانية وسياسية كالأمم المتحدة. إنه ضرب من quot; لوم الضحايا quot;، تكلم عنه سعيد في الماضي غير البعيد، ولم يفكّر، على ما أظن، أنه هذا اللوم، سيصبح quot; عقيدة سياسية quot; في القريب العاجل: أي في حاضرنا الأرضي، وما يحدث فيه من إبادات وكوارث إنسانية، من الطراز الأول. نعم: لوم الضحايا على أنهم ضحايا، مرة أخرى وأخرى وأخرى، وعلى أنهم، يسببون بعض الألم القليل لقاتليهم: بعض القلق والأرق، حين يضع هؤلاء القتلة، رؤوسهم على الوسائد المترفة. إنه عالم مجرد من أدنى الأخلاق. عالم مفتون بجنون القوة، وبعمائها معاً. قبل أيام، واسمحوا لي بالحديث عن شأن داخلي، شرعت المخابراتُ الإسرائيلية، في لعبة جديدة حقيرة، تمارسها في قطاع غزة، وهي إرسال رسائل مسجلة على التلفون الأرضي، وإجراء مكالمات مباشرة على الموبايل. تتصل بالطرف المعني، وتقول له أمامك ساعتان على الأكثر، لإخلاء منزلك، قبل أن نقصفه ونسوّيه بالأرض! وبعد ساعة من الاتصال، تتصل مرة ثانية، لتسأل الفلسطيني: هل أخليت البيت! ومتى تتصل ؟ في المساء، والكهرباء مقطوعة، وبعد منتصف الليل، وعلى وش الفجر على الأخص! ولكم أن تتصوروا مقدار ما يطال المدنيين الفلسطينيين، الأهالي الآمنين، الشيخ والطفل والبنت، من رعب هائل، ومن سرعة حركةٍ في العتمة الكاملة القاحلة، بل هرولة وهرجلة في الهروب من البيت، والنوم في عراء الشوارع والمساجد، أو عند الجيران والأقارب البعيدين!. نوع من حرب نفسية حقيرة، جعلت الناس، يعيشون في رعب وكابوس هدم البيت _ قبل أن يتحوّل إلى قبر جماعي لهم _ على مدار الأربع والعشرين ساعة [ تذكّروا أن الوطن، في الأخير، بيتٌ وسقفُ بيت، ولا معنى له خارج هذا! ]. هذا هو ما تمخضت عنه العبقرية الاستخبارية الإسرائيلية، في آخر منتوجاتها، لتمارسه على الضحايا الأبرياء في غالبيتهم العظمى. ضحايا أبرياء فقراء إلى درجة أن حوائط بيوتهم، التي لا يملكون شيئاً غيرها من متاع هذه الدنيا، هي فقط، ما يسترهم، و هي فقط ما يحافظ على كرامتهم الآدمية، من الانكشاف أمام الآخرين. هذا هو صنيع إسرائيل العظمى الجديد _ قال أحدهم، في إحدى إذاعاتهم، بعبرية ممزوجة بلكنة روسية، عن هذا، إنه: [ طريف.. طريف ومُسلٍ كأنك تلعب مع نفسك ]! ويوماً ما قال شاعرنا أدونيس، [ سحقاً لعصري: أين العدو النبيل ]. وما بين القولين، على اتساع الهوة بينهما، يمشي العالمُ، متحضراً ومتوحشاً، إلى المزيد من عمائه، والمزيد من لوم ضحاياه، والتفريق أخلاقياً، ما بين ضحية مدنية وأخرى مدنية أيضاً، وكأنّ المسألة عادت إلى المربع الأول، فانقسم العالم، إلى ذوي الدم الأزرق، وغير ذوي الدم الأزرق. انقسمَ إلى إسرائيل وغير إسرائيل، أمريكا وغير أمريكا. وفي هذا الخضم الجنوني الهذياني ، لا مكان، حتى ولو أخلاقياً، للضحايا من غير ذوي الدم الأزرق. إنها إذاً، ذروة الفاشية والعنصرية، تأتي من جهات تزعم أنها تشن حرباً بلا هوادة على الفاشية والعنصرية، أياً كانت، وتحت أي رداء تخفّت، سواء أكان رداء دينياً أصولياً، أو غيره من أرديةٍ علمانية تزعم العقلانية والبراحَ الإنساني. ما يعيدنا، حتى ولو حاولنا النسيان، إلى مقولة هوبس العتيقة [ الإنسان ذئب الإنسان ]: ذئبه لا أخوه ولا رفيقه، ولا شريكه، ولا أي شيء من هذا القبيل الرومانسي. بالأخص في زمننا العظيم المجيد هذا: زمن القنابل الذكية، وأمريكا الأذكى، وإسرائيل الأكثر ذكاء من الجميع _ إسرائيل وهي تعيش أيضاً، وبالمقابل، زمنَ غباء الضحايا، وزمن لومهم، زمنَ أن يكونوا مادة لموتها وحطباً لمحرقتها، في كل من قانا وغزة، وفوق ذلك، مادةً لها، كي تتسلّى، في أوقات الضجر والسأم، التي تفصل بين استراحة المحارب الفولاذي، ونوم العدو المدني الفقير!