عند استقلال سنغافورة، كانت عائدات القاعدة العسكرية البريطانية تمثل ثلاثة أرباع دخلها القومي، مما عزز بعض التشاؤم حول قدرة الدولة الصغيرة على النمو بمفردها. لكن الجزيرة المعزولة جغرافيا عن أسواق الدول المتقدمة، حققت اكبر معجزة اقتصادية خلال العقود الخمسة الماضية، حيث يفوق معدل دخل الفرد 23 ألف دولار، أي قرابة ضعف معدل الدخل بكوريا الجنوبية. و تحققت المعجزة في ظل حكم الزعيم الواحد quot;لي كوان يوquot; باني النهضة السنغافورية الحديثة، الذي حكم البلد على مدى 31 سنة، وفي ظل نظام الحزب الواحد (حزب العمل الشعبي) الذي هيمن على البرلمان في انتخابات 1972, 1976, 1980, 1984. 1988. ثم وبعد 14 سنة من تولي quot;جوه شوك تونجquot; الوزارة الأولى تم تعيين ابن الزعيم التاريخي quot;لي كوان يوquot; السيد quot;لي هسيان لونجquot; على راس الحكومة، مما حول البلاد إلى quot;جملكيةquot; حسب التعبير الشائع هذه الأيام. السؤال المطروح إذن كيف استطاعت سنغافورة تحقيق كل هذه الإنجازات في ظل حكم غير ديمقراطي؟ ولماذا لم يحل اعتمادها النظام quot;الجملكيquot; مؤخرا دون المزيد من التقدم؟

الأساس الأول للمعجزة: تبني نظام حازم لتحديد النسل شبيه بالنظام الذي اتبعه الحبيب بورقيبة في تونس، حيث لم تتجاوز نسبة زيادة السكان 1.9% في 1970 و1.2% في 1980، مما جنب البلاد كارثة الانفجار السكاني التي تمثل عائقا مخيفا للتنمية. لكن ما أن اصبح الاقتصاد السنغافوري في حاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة المؤهلة حتى غيرت الدولة سياستها السكانية في الاتجاه المعاكس باعتماد برنامج جديد يهدف لتحفيز المواطنين لزيادة النسل، خصصت له ميزانية تقد بـ 300 مليون دولار. و هذا التغير في السياسة السكانية ناتج عن أن كل مولود جديد في مرحلة التخلف يعني عبئا على الاقتصاد، بينما في مرحلة النمو و التقدم تتوفر الخدمات التعليمية و الصحية الازمة للأطفال فتجعل منهم ثروة بشرية تدفع بدورها عجلة الاقتصاد إلى الأمام.

الأساس الثاني: سياسة تعميم التعليم وتحديثة باعتماد أفضل المناهج في العالم حيث تتصدر سنغافورة الأولمبياد الدولي في امتحانات المواد العلمية، بينما لم تستطع دولة عربية واحدة أن تكون من مجموع الـ 30 دولة الأولى في آخر النتائج المنشورة للتقييم الدولي للتقدم التعليمي في مادة الرياضيات (http://timms.bc.edu). كما عملت على تطوير التعليم العالي والبحث، حيث تعتبر الجامعة الوطنية بسنغافورة جامعة رائدة عالميا.

الأساس الثالث: بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية (قوامها حوالي 50 ألف موظف لا اكثر) على درجة كبيرة من المهنية، حيث: (1) يتم التعيين عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع، (2) يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص (200 ألف دولار راتب سنوي للوزير)، و(3) لا مجال للفساد والمحسوبية حيث تتصدر الدولة مؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية ( http://www.transparency.org) ، و هذا عكس ما يحصل في الدول العربية حيث أهل الثقة مقدمون على أهل الخبرة و الكفاءة.

الأساس الرابع: بيئة مشجعة على الاستثمار، بما فيه الأجنبي الذي تجاور 7 مليار دولار السنة الماضية، حيث لا يتطلب إنجاز مشروع استثماري أكثر من 6 وثائق يتم الانتهاء من إعدادها في 6 أيام، مقابل 10 وثائق و34 يوما بمصر، وهو الفرق كل الفرق بين بيروقراطية شفافة و ذات كفاءة مهنية عالية و أخرى فاقدة لكل هذا و معرقلة للاستثمار.

الأساس الخامس: اعتماد التكنولوجيا المتقدمة لدفع عجلة النمو حيث تمثل الصادرات عالية التقنية أكثر من 60% من الإجمالي مقابل 4% فقط في الدول العربية. كما أزاحت سنغافورة أمريكا من المرتبة الأولى في استعمال تكنولوجيا المعلومات، حسب تقرير 2005 لمنتدى quot;دافوسquot; الاقتصادي العالمي. وتعمل حاليا على تطوير مجمعات للتكنولوجيا الحديثة في مجال الاتصالات والتقنية الحيوية (Biotechnology) حيث تقوم بتطوير مراكز بحثية تفوق تسهيلاتها ما هو متوفر في الدول الأوروبية، مما شجع الشركات متعددة الجنسيات على العمل فيها، بينما في العالم العربي تحذر عديد القوى و في مقدمتها التيارات الإسلامية و القومية من خطر هذه الشركات الضرورية لمساعدة الدول المتخلفة على الالتحاق بركب الحضارة و التقدم.

الأساس السادس: تنويع الأنشطة الاقتصادية من صناعة و سياحة، حيث يعتبر مهرجان سنغافورة الصيفي من أشهر المهرجانات في العالم، وتوجد حديقة للسافاري الأشهر خارج إفريقيا جنوب الصحراء، وحديقة للعصافير تضم أكثر من 8 آلاف نوع.... كما طورت مركزا ماليا دوليا يحتوى إلى أكثر من 500 مؤسسة.

سنغافورة لا تسبق العالم في كل شيء. في مؤشر المقاولات الرائدة (Entrepreneurship)، على سبيل المثال، جاء ترئيب الدولة في آخر القائمة. والحقيقة أن مواطني هذه الدولة العجيبة لا يحتاجون للمغامرة بإنشاء مشاريع استثمارية، بينما يؤهلهم المستوى التعليمي الراقي الحصول على عمل مجز في كبرى الشركات العالمية، خصوصا وأن نسبة البطالة لا تتجاوز 5%، وهي نسبة يعتبرها الاقتصاديون طبيعية (Natural Unemployment)، حيث تمثل مجرد انتقال العمالة إلى أنشطة تتناسب بصفة أفضل مع مؤهلاتها.

ومسئولو سنغافورة ليسوا دائما على حق. عندما يسخر رئيس الوزراء السابق quot;جوه تشوك تونجquot; من حرية الصحافة معتبرا إياها quot;معايير غربية لا تؤدي بالضرورة إلى حكومة نزيهة وازدهار اقتصاديquot; فهو يجانب الحقيقة، لأن مثل هذه الحريات هي قيم إنسانية، بدليل أن شعوبا آسيوية استماتت في الدفاع عنها.
لعل الدرس الأكبر للدول العربية من quot;جملوكيةquot; سنغافورة هو أن نظام الحكم السياسي لا يهم كثيرا، على الأقل في الفترة الانتقالية من مرحلة التخلف إلى مرحلة الحاق بمصاف الدول المتقدمة، وان إرساء الحداثة (نظام تعليم عصري متطور، تحديد النسل والاندماج في الاقتصاد العالمي) يمثل حجر الأساس للتنمية. كما تؤكد التجربة على أهمية الرؤية الثاقبة للمسئولين باتخاذ إجراءات حاسمة ndash; قد لا تدرك الأغلبية أهميتها في البداية- ، وعدم الاكتفاء برد الفعل عن طريق إصلاحات جزئية غالبا ما تأتي متأخرة و اقل من المطلوب، كما هو الحال في معظم الدول العربية اليوم.

باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية وخبير سابق صندوق الفقد الدولي بواشنطن
[email protected]