إن أي قرار لوقف إطلاق النار بين المتحاربين لن يُكتب له الحياة إلا في حالتين اثنتين: الأولى أن يوافق الطرفان على بنود القرار وشروطه، وهذا لن يتم إلا بشعور الطرفين أن في القرار ما يحفظ لهما حقوقهما وماء وجهيهما، أو برغبتهما في الطمأنينة والسلام، وإدراكهما لعبثية الحرب ومآسيها، وأن المنتصر فيهما خاسر. أو بهزيمة أحد الطرفين المتحاربين، واستسلامه ولو بشكل غير معلن. والحالة الثانية أن يتدخل طرف ثالث له دالة على الطرفين، أو يبتعد عنهما بالمسافة نفسها، مستخدما قوة الإقناع المنطقية أو العسكرية، لإصدار قرار بوقف القتال وفرضه وتطبيقه.

وفي حالة الحرب على لبنان فإن تفاهم الطرفين على شروط وقف النار غير ممكن، بالنظر إلى طموحات إسرائيل، وبالنظر إلى أن الكلمة الأخيرة في هذا الشأن هي لحزب الله الذي يملك كل أوراق اللعبة، علما أن أهداف الطرفين وتوجهاتهما متعارضة متناقضة، وعلى طول الخط. إضافة إلى أن الطرف الثالث المعول عليه، غير حيادي، فهو يقترب من إسرائيل أكثر بما لا يقاس من اقترابه من لبنان الذي يظهر في واجهته حاليا حزب الله.

إن حزب الله الذي أنزل بالإسرائيليين خسائر نفسية وعسكرية ومالية طائلة، أثبت في الميدان شجاعة منقطعة النظير، وقدرة فائقة على المناورة واستخدام السلاح، والمواجهة، والوصول بصواريخه إلى عمق الأراضي الإسرائيلية، فاجئت الجميع، وأطاحت بكل مخططات قادة إسرائيل العسكريين والسياسيين، وأثارت الخلافات فيما بينهم، وفككت وحدتهم، وأذاقت جيش الاحتلال ودباباته الشهيرة هزيمة مرة غير مسبوقة على الأرض، ولم تخطر على بالهم من قبل.

إن ما يريده حزب الله من شروط قرار وقف إطلاق النار يتعارض كليا مع ما تريده إسرائيل ، فلكل منهما أهدافه واستراتيجيته. وإسرائيل التي حددت أهدافها منذ اليوم الأول للعدوان على لبنان: أولا بإنهاء تهديد حزب الله لأراضيها، وإنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح بينها وبين لبنان، لا وجود فيها لمقاتلي حزب الله، تنتشر فيها إضافة للجيش اللبناني قوات دولية.
وثانيا نزع سلاح حزب الله تطبيقا للقرار (1559)، يوافقها ويؤيدها في هذا التوجه- الذي لا أظن إسرائيل تتشدد فيه كثيرا لتبقى لها ذرائعها ولتبقى الخلافات اللبنانية مستمرة- بعض القوى اللبنانية، وبعض الدول العربية التي تدعم مطالب هذه القوى اللبنانية، إضافة إلى بريطانيا وأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية الحليف الصدوق لإسرائيل، والتي تعد لشرق أوسط جديد، وتهيمن على النظام الدولي، وقرارات مجلس الأمن، وتعادي بالمطلق حزب الله الذي تتهمه بالإرهاب، وإيران التي تستقوي بحزب الله، وتسعى لامتلاك تكنولوجيا نووية، ولا تعترف بحق إسرائيل بالوجود، فقد طالب رئيسها أحمدي نجاد بإزالة إسرائيل من الخريطة الدولية. إيران التي صنفتها أمريكا ضمن محور الشر. مما يعني بالمنظور الأمريكي الإسرائيلي أن الحرب ضد حزب الله هي حرب ضد إيران أيضا.

إن حزب الله لم ينهزم عسكريا أمام إسرائيل رغم تفوقها التكنولوجي وأسلحتها المتطورة التي لا مثيل لها، ورغم خبرتها المتراكمة في الحروب، والدعم الأمريكي اللا محدود. لكن الوقت الذي توفره أمريكا لإسرائيل ليس في مصلحة حزب الله أبدا. وما ويزيد في الضغط على حزب الله، هم مئات الألوف من الشيوخ والنساء والأطفال الذين أجبروا على هجر بيوتهم، والخراب الذي حل بأحيائهم ومدنهم وقراهم وأرزاقهم، فهؤلاء هم أهل الحزب وأبنائه وأصدقائه ومناصريه ومؤيديه، وإسرائيل التي تدرك ذلك تمعن في المدنيين تهجيرا وتدميرا وعدوانا وتقتيلا.

إن إقامة منطقة عازلة، ونشر قوات دولية، وإبعاد حزب الله عن حدود إسرائيل يتناقض كليا مع خطاب الحزب وأيديولوجيته واستراتيجية، ويثير أسئلة عن مبرر وجوده، ويعني في حال الموافقة عليه- ما لم تتحقق شروط الحزب- إقرارا ضمنيا بالهزيمة، وأن كل هذا الخراب وهذا التدمير، وهذه الضحايا والمآسي، كانت مجانية، وكان بالإمكان تجنبها.
إن سلاح حزب الله يشكل خصوصية هذا الحزب وتمييزه. ويمكن القول أن هذا السلاح هو بمثابة الدماء التي تجري في عروقه، فبواسطته استطاع أن يفرض نفسه وكلمته، فلا يُعقد رأي، ولا تُحل عقدة بدون موافقته، وبه أيضا أصبح مهابا محبوبا مرهوب الجانب، يتمتع بقاعدة شعبية محلية وعربية وإسلامية واسعة. وتخلي حزب الله عن هذا السلاح سيفقده كثيرا من هذه المزايا. عدا عن أن هناك عددا غير قليل من مقاتليه المدربين جيدا قد تطوعوا، وتفرغوا لهذا العمل أو هذه المهمة، وقد لا يجيدون عملا آخر، وأعدادا أخرى تقوم وظيفتها على تأمين متطلباتهم وتسهيل مهامهم. وهؤلاء جميعا لا بد أنهم يتقاضون ما ييسر لهم سبل عيشهم، ويلبي متطلبات حياتهم، وحياة أسرهم التي يعيلونها.
إن أي قرار لا يبحث في جذور المشكل ويلبي كل هذه المتطلبات ويجد لها حلولا جذرية نهائية، لن يكون سوى قرار بوقف النار مع وقف التنفيذ.
[email protected]