صراع قيم وليس صراع اديان

في كل الحروب تاريخيا، تجد صورة او بضعة صور التقطها المصور، وتصبح رمز الحرب الذي يعلق بألأذهان. الصورة التي ستعلق بالأذهان في حرب لبنان الأخيرة، او حرب حزب الله التي اختارت القيادة ألسرائيلية التوسع فيها، هي من مذبحة قانا لجثة طفل لايتجاوز العام، ربما لايزال رضيعا، ب quot; تي شيرتquot; وشورت، وفي رقبته quot; بزازةquot; ربما كانت في فمه وهو نائم quot; آمنquot; قبل ان تغتاله القنابل الأسرائيلية ونشرتها الصحف البريطانية من اليمين الى اليسار، فمحرري ذهذه الصحف اباء وامهات لمست الصورة قلوبهم.

ورغم انني لم اصوت لحزب العمال الجديد وزعيمه توني بلير في الأنتخابات الماضية؛ الا اني شعرت، كمواطن بريطاني، بجزء من مسؤولية حرمان الرضيع من حياة كانت امامه، وبالتالي بالعار من موقف حكومة بلادي ورئيس وزرائي بلير.

ففي شارع الصحافة البريطاني، وتغطيته في مجملها، مع استثناءات قليلة، موضوعية متوازنة ، وإن غالبت في مقالات الرأي توجيهات اللوم لأسرائيل لمغالاتها في الرد العسكري، هناك شبه اجماع بان تصريحات علنية قوية من واشنطن قبل مجزرة قانا، تعلن رفض البيت الأبيض المساس بالمدنيين، كانت ستجعل العسكريين الأسرائيللين ( في غياب خبرة وزير دفاعهم عمير بيريتز التي تجعهله فريسة ساذجة لتوجيهات العسكر) أكثر حذرا وكان الرضيع ndash; ضمن اكثر من 30 طفلا - لايزال اليوم على قيد الحياة، نائما في سلام يمتص quot; البزازةquot; بين شفتيه ويحلم باللهو البريء في الصباح.

تمسك رئيس الوزراء بلير باعتقاد ان تبعيته للخط ألامريكي تمكنه من الهمس بالنصيحة في أذن الرئيس جورج بوش، لكن صورة رضيع قانا تقترح ان الشخص الوحيد الذي اوهم نفسه بهذا المنطق في بريطانيا هو بلير فقط لاغير .

فقد ذكرتني الصورة بقصيدة:
quot;قشرة صقيع الملاح القديمquot; The Rime of the Ancient Mariner للشاعر الانجليزي صمويل تايللور كولريدج (1772-1834) عندما اصطاد الملاح طائر القطرس Albatross وهو عند البحارة علامة تفاؤل وخير ndash; فانقلب الطقس وانعدم المطر وكاد البحارة يموتون عطشا، وعوقب الملاح بتعليق البحارة جثة الطائر البريء من رقبته. ودخل اللغة تعبيرquot; هذا الأمر هو قطرسي My Albatross quot; اي تصبح فعلة الأنسان ذنبا حول رقبته .

ولو كان الأمر بيدي لأعددت ست نسخ بالحجم الطبيعي ( 18 بوصة) لصورة رضيع قانا في اطار من الرصاص الثقيل. وتكون كل منها قطرس قتيل تعلق كل واحدة منها حول رقبة كل من ابطال المهزلة التراجيدية في لبنان قادة: امريكا، اسرائيل، ايران، سوريا، وحزب الله. وترددت قبل تعليق النسخة السادسة حول رقبة رئيس وزرائنا توني بلير، كي امنحه فرصة وضع كلامه موضع التطبيق بعد محاضرته يوم الثلاثاء في لوس انجليس وإن جائت متأخرة بالنسبة لاطفال قانا؛ وفحص مإذا كانت بداية فصل تكتيكي للسياسة الخارجية البريطانية عن الرئيس بوش وهوس ايدولوجية المحافظين الجدد.

ورغم ان بلير لايزال يشارك بوش وبقية العالم، خاصة الأغلبية الساحقة من المسلمين المسالمين - وهي النقطة ألاهم في الجدل- الهدف ألأستراتيجي الأكبر من محاربة ألارهاب باتاحة الفرصة للمسلمين ومواطني بلدان الشرق ألاوسط لتحقيق حلم الديموقراطية، الا انه ينبه الحليف ألامريكي، علنا، بخطأ التكتيك المتبع لتحقيق هذه الأهداف ألاستراتيحية.

وتحذير رئيس الوزراء من قوس التطرف الراديكالي الممتد من غزة حتى الخليج، هو نداء موجه للأسلام الحقيقي كدين سلام ومحبة، ليستعيد اصحابه ثقتهم بانفسهم ويجمعون صفوفهم ، لمواجه متطرفين يحاولون اختطاف الأجندة السياسة بعد ان مكنهم فساد الحكومات من اختطاف اجندة الفقراء الاقتصادية والأستيلاء على ثقافتهم.

وفضيلة بلير هنا هي رجوعه للحق معترفا بان تلويح امريكا بالعصا الغليظة ( واستخدام اسرائيل لها ) يأتي بنتائج عكسية لمشروع حسن النية اصلا وذلك بتقوية التيارات ألاصولية المتشددة، والتي ستعطل الأصلاح الديموقراطي الذي ترغبه شعوب الشرق الأوسط. فتطرف تعامل اسرائيل مع الأنتفاضة ألاولى افرز حماس، وموضة الأنتحاريين، اما غزو لبنان 1982 فافرز حزب الله، ويعلم الله اماذا ستفرز الحرب الحالية اذا لم يسارع عقلاء العالم شرقا وغربا بتسوية تحتوي الأزمة وتتجنب تجددها مستقبلا.

ويري رئيس الوزراء انه لايمكن كسب المعركة ضد التطرف على مستوى العالم quot; الا بالنجاح على مستوى القيم، وهذا لايتم الا بالمساواة والتوازن عند تطبيق وممارسة هذه القيم بعدل حول العالم،quot; مؤكدا على ضرورة ايجاد حل عادل للنزاع الفلسطيني الأسرائيلي في اطار الدولتين المستقلتين.

لمس بلير، كمحامي من الناحية المهنية وكرجل دولة، مايدور بخلد وافئدة الغالبية الساحقة من الذين يدينون بالأسلام، كمصدرللقيم النبيلة، وليس كوسيلة لتحقيق غايات سياسية بقوله quot;اننا لانخوض صراعا ضد الأرهاب فحسب، بل من اجل الطريقة التي يريد العالم ان يحكم بها نفسه في القرن ال 21؛ انها حرب حول القيم العالميةquot;.
فالصراع المستمر بين اسلام العقل يناصره دعاة الأجتهاد تيسيرا على الناس لمواجهة هموم العصر في ناحية، وبين ألأصولية السلفية التي تغييب العقل، وتستخدم السيف لأقناع quot; المتشككquot; في ناحية اخرى ؛ يعود لبضعة قرون وليس من ابتكار بلير وبوش لصالح اسرائيل في السنوات الأخيرة، كما يحلو للبعض تفسيره. فاصرارالمتطرفين على السلفية كمنهج وحيد لقبول الدين الأسلامي، وفرضه نمطا في الحياة، يتيح لهم احتكار تفسير الدين بهدف خديعة الشباب واقناعهم بالتضحية بانفسهم من اجل أهداف سياسية لاعلاقة لها بالدين اوالدعوة لمكارم الأخلاق .

فأكبر خطر يهدد ألاسلام اليوم يأتي من الراديكاليين الثورجية ( الذين علقو على بابهم يافطةquot;المجاهدينquot;) ومن وظفوا الدين الحنيف للضحك على الناس، سواء اقتصاديا بالنصب عليهم وسرقة مدخرات الكادحين في مشاريع وهمية كشركات توظيف الأموال في مصر، او جمع التبرعات في بلدان العرب، وارسالها لمقاتلين بدلا من المحتاجين،او سياسيا بشعارات فارغة quot; كألاسلام هو الحلquot; دون معنى تطبيقي حقيقي، او لترويج تجارة السلاح ونشر ألارهاب بquot;لبننةquot; بلدان المنطقة بعد quot; افغنةquot; لبنان بدعم حركات متطرفة توهم البسطاء ان النزاع السياسي الحدودي هو صراع ديني بين quot; يهود وصليبيينquot; في ناحية ، و quot; مسلمينquot; في ناحية أخرى، فتستولي المليشيا المسلحة الأقوى من القانون على قلب الدولة وتوجه سياستها كما كانت القاعدة في افغانستان، وتحالول مليشيا حزب الله الآن في لبنان، واستيلاء مابسمي بالمحاكم الشرعية على الصومال .

وتكرار النسخة quot;المأفغنةquot; (في لبنان، والصومال، والعراق،و فلسطين) هو هدفها التكتيكي بخلق بقع من الفوضى الثائرة لاسلطة قانونية فيها للدولة، كخطوة لاستراتيجية المدى الطويل بربط هذه البقع في quot;خلافةquot; يسعى القائم عليها الى توظيف ثروات المنطقة لتمويل حرب دائمة. بلير ابدى تعاطفه يوم الخميس الماضي في مؤتمره الصحفي الشهري مع غالبية المسلمين المعتدلين الذين يريدون العيش في ديموقراطية وسلام دائم وعلاقة رخاء مع الدول المجاورة، خاصة وانه يدرك تعرضهم لضغوط تعرقل مسيرتهم نحو الديموقراطية فيضطرون للتخلي عن حلم السلام ليدعموا من سماهم الأعلام الغوغائي quot; بالمقاومةquot;، حتى لايتعرضوا لوصف الخيانة والتواطؤ quot; مع العدو الصهيوني والمستعمرquot; في الأعلام الغوغائي.

وعندما يسمع الأسرائيليون نداء الرئيس الأيراني احمدي نجاد ( صباح الخميس) بازالة اسرائيل من الوجود، في وقت يحاول فيه العالم التوصل لهدنة، سيعتبرون ان حزب الله هو سلاح الرئيس ألايراني لأبادتهم فيتشددون مطالبين قادتهم بتصعيد الغارات، ويصبح وكلاء ايران quot; مقاومةquot; بالصدفة الأحمدي-نجادية.وحذار من الذئاب في جلد الحملان، فالجماعات الأصولية السلفية التي تتظاهر اليوم بالأكتفاء بالممارسة النيابية ، لها تاريخيا اجهزتها ألارهابية السرية، انتظارا للحظة المواتية للأنقضاض غدا على الدولة التي تبدوا ثابتة ومستقرة.وبقوله انه صراع قيم وليس صراع اديان، فإن بلير ينحاز إذن لغالبية المسلمين التي ترى الدين كايمان روحي يرقى بالأنسان وليس كوسيلة للكسب ألقتصادي او الوصول السياسي للحكم.

فنحن الآن تمام خيار حاسم: إما ان ينتصر ألجهاديون الأسلاموييون السلفيون وتسيطر المليشيات والحركات الاصولية المتطرفة على دول تجرها الى حروب مدمرة لحساب ديكتاتوريات ثيولوجية فتتكرر صورة رضيع قانا ( بصرف النظر عن دينه او او جنسيته) وتحاول امم اخرى تجنب هذا المصير بالخضوع لديكتاتوريات علمانية؛
واما ان ينتصر التنويريون ألاجتهاديون واصحاب القيم الأنسانية فنرى في المنطقة سيادة الدولة وقانونها وحكومات ديموقراطية منتخبة في العراق ولبنان وفلسطين المستقلة تعيش حالة جوار طبيعية مع الجميع ، وتستأنف بقية البلدان الرحلة نحو مزيد من الديموقراطية.