أثناء زيارتي إلىكتمندو( Kathmandu ) عاصمة النيبال في مارس 2000 مبعوثا من طرف نادي القلم البولندي للمشاركة في المؤتمر العالمي للجان نادي القلم لشؤون الكتاب السجناء في العالم، حيث كنت مسؤولا آنذاك عن لجنة نادي القلم البولندي، لاحظت وأنا أنتقل، في عز الشمس، من المطار الدولي المُغبرّ إلى المدينة، أن سيارتنا قد توقفت فجأة قرب كوبري عتيق، فتراءى لي، والخوف يتغلغل في العروق، أن فريقا من الماويين المتطرفين سيختطفوننا، لكن المفاجأة كانت أكبر حينما اتضح لي أن القضية لا تعدو أن تكون أكثر من توقف عابر إلى حين عبور كتيبة أبقار من طرف الشارع الرئيسي إلى آخر. صار المشهد بعد لحظات مثيرا للرائي، بعد أن ترجّل السائق ليدخن واضعا يدا على السيارة والأخرى متشبثة بسيجارة طويلة نسبيا. دنت بقرة من السيارة تشممتها ومن ثم لحستها وهزت رأسها وانصرفت. كان المنظر رغم الانتظار مفيدا ومدعاة لتأمل الوضع البشري من جهة، ودرسا للغريب الداخل إلى بلد مثل النيبال من جهة ثانية. تكرر المشهد أثناء عودتي عبر الهند، وكأن هناك اتفاقا بين أبقار البلدين على لفت أنظار بني البشر إلى أنها تتمتع بحصانة ديبلوماسية وبقدسية تمتد إلى مئات السنين وأكثر.
ذكّرني بهذا المشهد الخبر الذي قرأته مؤخرا في quot;إيلافquot; الضائع في تلافيف الأخبار الصحفية الداعمة للحرب والمناهضة لها ، الساعية للتأثير النفسي على الخصم والصادقة في توجهاتها المناهضة لاستخدام العنف والقوة لحل النزاع، الغارقة في بحر العنف وبر القتل والدمار والاحتلال والبلطجة، والصواريخ المتساقطة على رؤوس الناس الأبرياء، والتصريحات النارية من هذا الطرف وذاك: quot;بتوسيع رقعة العمليات الحربية(يعني البطش والخراب) إلى أن تتحقق الأهداف المطلوبة إسرائيليا...quot;، وquot;بتلقين العدو درسا لن ينساه أبدا على ما اقترفه بحق اللبنانيين...quot;.
هذا الخبرالسوريالي بطبيعته، يتعلق quot;بتسللquot; مجموعة لا بأس بها من الأبقار من شمال إسرائيل إلى جنوب لبنان، بسبب حرائق بعض الغابات والمراعي الناجمة عن القصف. هذا الخبر أعتبره من أكثر الأخبار، منذ بدء الحرب الغبية، طرافة ومدعاة للأمل والتأمل، في خريف الشرق الأوسط، وتصحّرالضمير العالمي: عبر هذا الحجم المريع من اللامبالاة إزاء دمار بلد صغير وتشرد أناس عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم، وخوفهم من انتقاد وشجب دهاقنة الحرب والعنف، بغض النظر عن كونهم بلا غطاء وهم الأكثر تضررا، أو ممن تحميهم الملاجيء المحصنة بانتظار أن تتهدم على رؤوسهم.
لم يفلح أحد باختراق جحافل الدبابات الإسرائيلية وعيون الطائرات الحربية وquot;ترصد رجال المقاومةquot; سوى الأبقار الإسرائيلية، بدون سلاح وجوازات سفر، باحتقار شديد، لآلهة الحرب ورعاة العنف، وآلتهم الجهنمية. لقد تجرأت الحيوانات الحلوب على الاحتجاج، كجزء من تمرد الطبيعة ضد من يدمرها، مقابل جبن الإنسان وأنانيته وكلبيته، وهو يصفق لهذا الطرف أو ذاك، متلذذا بذبح بني البشر، وبما سيؤول ذلك إلى زيادة الكره والحقد وحب الانتقام، ومن ثم تواصل دوامة العنف وسفك الدماء، تحت ذرائع شتى: بريئة أو مشبوهة، محقة أو غير محقة.
لا أخفي حذري مما قد يختبيء وراء هذه الأبقار البريئة من خديعة حربية، تذكرني بحصان طروادة، كما ولا أخفي توجسي من إيحاءات الخبر؛ بأن صواريخ quot;حزب اللهquot; تدمر وتحرق النسل والضرع، بينما الجنوب اللبناني، رغم الدمار الحاصل به، قد نجت مراعيه وطبيعته من الخراب، بسبب حب الجيش الإسرائيلي للطبيعة، واجتهاده في مراعاتها!
لكنني سأقول: أهلا وسهلا باحتلال الأبقار الإسرائيلية للبلاد العربية، أهلا وسهلا، بتمرد الطبيعة ضد مستبيحيها، أهلا وسهلا، بالنعاج والغزلان الإسرائيلية، ولأن حياتها أهم وأقدس من الحياة العربية، فلربما ستساعد قليلا على إيجاد مخرج من هذا الدمار. ولربما ستساعد الثيران العربية على التلاقح ليولد نسل جديد ذي نفع أكثر من ذي قبل. وحينئذ سنتوقع عبور فصائل من الثيران اللبنانية والعربية إلى شمال إسرائيل، للتدريب على احترام مواطنيها من بني البشر والحيوان.
معادلة رهيبة، قاسية وكارثية في نتائجها، تشف عن نفسها منذ سنوات في مناسبة وغير مناسبة، لاعبة دورا حيويا وخفيا في بناء الفرد والمواطن، ومؤثرة في الصراع القائم في الشرق الأوسط. يبدو لنا هذا الدور مزدوجا: احترام المواطن وإشعاره بقيمته، واستغلال قدراته وولائه لدى الضرورة! معادلة غير متكافئة إطلاقا، مبنية على احترام المواطن وتقديس حياة الإنسان وحقه في الدفاع عن نفسه، والدفاع عنه خارجيا، باعتبار أن المساس به من قبل الآخرين الأجانب يشكل مساسا مباشرا بشرف أصله وفصله وانتمائه، وتحديا لهيبة دولته، هذا ما رأيناه ونلمسه على الصعيد الإسرائيلي(أكثرمن سواه) والأمريكي والأوروبي والياباني وآخرين. وطرف يبدد طاقات مواطنيه ويحتقرهم ويستهين بحياتهم، بل يتمادي في إذلالهم وإماتتهم فعلا ومجازا، ويلاحقهم هنا وهناك، ولا يثق بهم وبولائهم، وغير مستعد على الإطلاق للدفاع عنهم خارجيا، طرف عربي يسعى، بشتى الطرق، للتخلص من مواطنيه المغايرين رأيا، بدفعهم للهرب والنزوح وما شابه ذلك، أو زجهم في حروب ومغامرات بائسة وعقيمة،غير محسوبة النتائج. على العربي أن يمتشق سيفه ويقاتل طواحين الهواء. ألم يكن (دون كيشوت) من بلاد الأندلس؟!
لا أهمية، في العرف الإسرائيلي، في أن يكون المتضرر شخصا إسرائيليا واحدا أو مائة، صحيح أن اختطاف الجنديين الإسرائيليين كان مبررا هزيلا لشن حرب عدوانية مدمرة على بلد مستقل بكامله، لكن المغزى واضح. من هنا فالعالم قد تعود على أن حياة الإسرائيلي لها نفس قيمة حياة المواطن الغربي، بل أكثر، بسبب شحذ الذاكرة العالمية كي لا تنسى quot;مذابح اليهودquot;، وبالتالي فلابد من الدفاع عنها، الأمر الذي يوحي، لدى الضرورة، بغض النظر عن حياة الآخرين، وعلى رأسهم العرب والمسلمين، لأنها رخيصة من جهة، ولا أحد يسأل عنها رسميا من جهة أخرى.
المؤسسات الإسرائيلية تقوم جاهدة(بصورة ذكية ومنظمة للغاية) دائما، وفي الأوقات العصيبة خصوصا، بدور آخر خطير ثقافي وإعلامي هام للغاية، لكي توضح مواقفها من جهة، وتثبت قيمة مواطنيها وبني جلدتها ومناصريها حقا وفعلا من جهة أخرى، من خلال تسليط الضوء على الجهد العقلي والثقافي لهم، بحيث يصبح الدفاع عنهم صنوا للحفاظ على الجهد الفكري والعلمي المتميز والمثابر، مقابل تصحر فكر وعقل وروح الخصم!!
هل ستقوم الأبقار الإسرائيلية، ياترى، بدور الوسيط المحايد والنزيه، من أجل إيقاف الحرب والعنف في المنطقة، بعد الانحياز الأمريكي، والإجازة العربية الصيفية، في حانات وشواطيء ومصايف أوروبا؟
التعليقات