على هامش الحرب الطاحنة الدائرة على أرض لبنان بين الجيش الاسرائيلى ( الذى لا يقهر ) وحزب الله ( الذى أثبت هو الاخر أنه لا يقهر ).. لابّد من عدة ملاحظات لم تعد خافيه على أحد.

الملاحظة الاولى: أن هذا البلد الصغير الجميل ndash; لبنان أدهش العرب والعالم بكل شىء. فهو جميل الى أقصى الحدود. وشعبه مضياف وطيب الى أقصى الحدود. وشبابه ملفت للنظر والعقل معا. كما أنه يتحدث اللبنانية بطريقة خاصة، ويخطب بالعربية بنكهة خاصة. ويتقن الفرنسية والانكليزية والاسبانية والطليانية وسائر اللغات الحّية حتى لكأنك وانت فى بيروت، لا تعرف اذا كنت فيها فعلا أو فى باريس أو مدريد أو نيويورك.
وبأختصار : أن، اللبنانيين شعب حىّ متحرك، جبار. وقد أثبت شبابه فى داخل هذا الوطن الصغير أنهم قادرون على اختراع العجائب يخرجون من المساجد الى العمل والتصرف الحضارى، ثم يباتون وبنادقهم تحت حذائهم، فاذا جاءت الحرب فهم من أسيادها. واذا جاء السلام وجاءت السياحة، فهم من أرقى شعوب الارض وأكثرها ثقافة وحضارة. ولعل ما يفسر هذه الوحشية الاسرائيلية فى القصف والقتل أن حكومتها تتساءل : ماذا سيكون مصير أسرائيل لو أن هؤلاء الشباب حازوا على طائرات ودبابات وصواريخ ذكية ؟

الملاحظة الثانية: أن حرب لبنان، وقبلها حرب فلسطين، أثبتتا أن الانسان أقوى من الطائرة، والدبابة، وأقوى من الغطرسة. وهذه القوة مستمدة اولا من أرادة الحياة، وهى ثانيا تثبت أن العقل البشرى هو الذى يصنع السلاح وليس العكس. وفى حرب اللبنانيين والفلسطينيين يبدو واضحا أن الايمان هو سلاح أشدّ شراسة من الصواريخ، سواء كان الايمان بالله أو بالحق أو بالحرية وكلها صفات من صفات الله تعالى نفسه. وما تفعله اسرائيل بترسانتها العسكرية سوف يدمرّ الارض والبناء ويقضى على الزرع، ويحصنّ القوات العسكرية الاسرائيلية فى المواقع التى تحتلها.. لكن أسرائيل لن تتمكن من البقاء طويلا فى مواقع الاحتلال، وعلى رغم تفوقها العسكرى المذهل، فهى ndash; فى حقيقة الامر ndash; دولة خائفة. وشعبها شعب لا ينام الليل ملىء جفنيه. وسوف يبقى كذلك الى أن تذبل قوته وينتهى جبروته. ولولا هذه الكمية الهائلة من الخوف، ما لجأت اسرائيل الى تدمير بلد بكامله وقطاع بكامله مخالفة بذلك كل قواعد الحروب على مدى التاريخ باستثناء هولاكو.

الملاحظة الثالثة: أن حرب لبنان، وحرب فلسطين، أثبتتا بما لا يدع مجالا للشك أن أمريكا هى أسرائيل. واذا كان العدو الذى يقاتلنا فى فلسطين وفى لبنان هو الجيش الاسرائيلى والحكومة الاسرائيلية، فهو ايضا، وأولا، الادارة الاميركية، وخصوصا أدارة بوش التى أكتشفت بعد أن دفعت أثمانا غالية جدا فى العراق، وفى أفغانستان، وقبلها فى أميركا الجنوبية وفى كوريا وفى فيتنام أنها دولة قوية وجبارة.. ولكنها لم تحقق نصرا واحدا منذ خمسين عاما، بل لقد حققت أدارتها المتعاقبة مزيدا من الكراهية ومزيدا من خيبات الامل فى الشرق والغرب والعرب والصين والروس وأفريقيا وسائر مناطق الارض، وأذا أتيح لشعوب العالم أن تدلى بصوتها حول محبة أو كراهية الادارة الاميركية، فلا شك أن صوت الكراهية سيفوق بدرجات مرتفعة صوت المحبة أو الاعجاب. ومن المؤسف أن هذه الدولة العظيمة الغنية الديمقراطية تقاد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بمجموعات من المغرورين والمتجبرين الذين يظنون أن القوة تصنع المحبة. فاذا بهم يكتشفون بعد نصف قرن أن شعبيتهم فى العالم تتراجع من سىء الى أسوأ. وعندما سيتاح للشعوب أن تستغنى عن مساعدات واموال اميركا.. وتنجو من بطشها العسكرى، فسوف يجد الشعب الاميركى انه فى عزلة تامة عن العالم وعن الشعوب المحبة للسلام والتعايش.
والخلاصة، أن الولايات المتحدة، لاسباب فيها الكثير من قصر النظر ndash; تضع نفسها موضع عدوّ الشعوب المحبة للسلام والمنطلقة الى الديمقراطية والحرية. وحجتها فى ذلك أنها تحارب الارهاب لكنها اذا راجعت حسابتها فسوف تكتشف أنها هى التى أنشأت هذه الفرق الارهابية التى ما أن قوى عودها حتى أكتشفت أن واشنطن تريد أن تستعملها لمصالحها وترمى بها فى غبار التاريخ، فانتفضت على أميركا وجعلتها العدوّ الاول والاخير.

الملاحظة الرابعة: ان حرب اسرائيل فى فلسطين ( القطاع ) ولبنان(حزب الله ) أثبتت للمرة الاولى فى تاريخ الصراع العربى ndash; الاسرائيلى ان حرب العصابات تؤذى اسرائيل بأضعاف أضعاف الحروب النظاميه، خصوصا وان أميركا تعمد منذ ستين عاما على تسليح اسرائيل بحيث تصبح اقوى قوة نظامية فى الشرق الاوسط، وربما فى ما هو أكبر من الشرق الاوسط. وقد شهدنا منذ 1948 حتى اليوم ثمانى حروب على الاقل خاضتها اسرائيل ضد العرب مجتمعين، وتغلبت فيها على أكثر هذه الحروب.
وفى جنوب لبنان، أثبت عشرون أو ثلاثون الفا من رجال حرب العصابات مزودين بشبكة محكمة من الصواريخ والسلاح الفردى الفعال أنهم قادرون ليس على دحر اسرائيل، ورميها فى البحر، بل على تحطيم أسطورة الجيش الذى لا يقهر، وتخفيف مستوى شروطه وطروحاته التوسعيه. ولو قّدر للدول العربية المحيطة باسرائيل أو الراغبة بمواجهتها أن تملك مقاتلين مع نوع مقاتلى حزب الله، مزودين بشبكة صواريخ فاعله، فمن المؤكد أن جغرافية الشرق الاوسط سوف تتغير، وتتغير معها قدرات وطلبات وشروط أسرائيل، لكن المؤسف، أن الدول العربية التى ما تزال تحمل حالة العداء لاسرائيل قد خف عددها وعديدها الى درجة لم يعد ممكنا معها الحلم بوضع اسرائيل فى الموضع الذى يريده العرب، على رغم أن هذا لا يزال ممكنا وغير محفوف بالمخاطر السابقة.

الملاحظة الخامسة: أن اسرائيل أكتشفت أخيرا أنها جسد غريب يعيش فى موطن ليس موطنها وفى مجتمع ليس مجتمعها وفى ثقافة ليست ثقافتها وفى ماء ليس ماءها. وفى حربها على لبنان وفلسطين تأكد ان البحر الذى تعيش فيه لن يتاخى معها أبدا. وان السلاح الذى تحمله على ظهرها ولا تحيد عنه لن يقوى على أرغام الجسم العربى والبحر العربى على أحتضانها. ولذلك نراها تضرب بالطائرات وتهدم وتدمر من جهة.. ثم تحاول أن تقترب من العرب من الجهة الاخرى. فتزعم انها تريد السلام والعيش بامان، جنبا الى جنب معهم، لكن التاريخ لا يحتفظ لنا ببراهين كثيرة على قدرة سمكة صغيرة أن تبتلع حوتا كبيرا بل على العكس من ذلك تماما. فالكبير هو الذى يبتلع الصغير حتى اذا كان فى فم الصغير سيف أو رزمة من الديناميت.

وخلاصة الخلاصة، أن مستقبل اسرائيل محكوم بمصير واحد من أثنين:-
* فاما ان تذوب فى البحر العربى وتصبح جزءا لا يذكر منه كما حصل مع الشيشان فى الاردن مثلا، والارمن فى بلاد الشام والتركمان فى العراق..

*أو أن تنزوى وتحاول أن تعيش فى مجتمع يهودى خال من العلاقة بالاخرين. وعندئذ سوف تكون قد قضت على نفسها بنفسها، اذ سيكون أمامها مائة سنة كى يبلغ عدد سكانها نصف عدد سكان مصر اليوم، وستكون مصر قد بلغت المائتى مليونا والعرب جميعا المليار نسمة. وعندئذ سوف نبحث عن اليهودى فى هذا البحر المتلاطم من العرب، فلا نجد له أثرا ولا شارعا ولا مجمعا سكنيا صغيرا. وفى النهاية فأن اسرائيل تصنع نهايتها بنفسها وكأنها تعيش ليومها فقط وهذا منتهى الغباء وقلة الحكمة. غير أننى أسارع الى القول، او الى التذكير، بأننا لا نرى ملامح واضحة لاستفاقة عربية. ويبدو أن عصر الوحدة قد ولى وحلّ محله عصر الفرقة والتباعد وهذا فقط سيجعل اسرائيل دولة قادرة على الحياة ويجعلنا أيدى سبأ.