نشرت صحيفة القدس العربي في 13 سبتمبر ما وصفته ببيان وقّعه عدد من الكتّاب العرب تضامنًا مع الكاتب الألماني غونتر غراس. أمّا كيف صارت فنّانة تشكيليّة، أو ناشر في عداد الكتّاب فهذا شأن المبادرين إلى هذا البيان، وبيانات مماثلة من هذا النّوع. لكن ليس هذا هو المهمّ في هذا البيان، إذ أنّه من الأجدر أن نتطرّق إلى بعض التّساؤلات الّتي تعلو عقب قراءة البيان ورؤية الأسماء الموقّعة وبلدانها.

جريًا على عادة الثّقافة العربيّة quot;الثّوريّةquot;، ربّما كان من الأجدر للمبادرين أن يُطلقوا على ما حرّروه من كلام عنوان quot;بيان رقم 1quot;. فلا شكّ أنّ عنوانًا من هذا القبيل (أو لنقُلْ: من هذه القبيلة) كان سيُضفي عليهم شعورًا بالانتشاء، وهو شعور طالما استحوذ عليهم في ريعان شبابهم quot;الثّوريquot;. لا بأس. بل وأكثر من ذلك، فها هم يوقّعون بيانًا يتضامنون فيه مع الكاتب الألماني الشّهير، يُحدّثون أنفسهم بأنّهم صاروا جزءًا من هذا العالم الكبير من خلال تمسُّحهم بأسماء عالميّة لا يعرفون منها غالبًا غير الاسم.

كذلك، فإنّهم عندما يوقّعون على بيانات من هذا النّوع فإنّهم يحاولون الظّهور وكأنّهم ينتمون إلى أولئك النّفر من النّاس الّذين يتّخذون مواقف أخلاقيّة تُحسَب لهم. غير أنّ الحقيقة هي أبعد ما تكون عن ذلك. إذ أنّه لا أسهل من أن توقّع بيانًا حول قضيّة تقع خارج حدود بلدك، بل تبعد كثيرًا عن هذه الحدود الحضاريّة والاجتماعيّة. حقًّا، لا أسهل من هذا الأمر. في حال كهذه لا يوجد من يحاسب ومن يراقب، ما دام الكلام موجّهًا إلى ما هو خارج حدود الأوطان.

الانتقاد الّذي يُوجّه إلى غراس في ألمانيا هو شأن ألماني ثقافي يندرج ضمن حساب النّفس الّذي يقوم به الشّعب الألماني إثر الّذي جرى مع صعود النّازيّة وما جرّته هذه الأيديولوجيّة العنصريّة من مجازر ومحارق شرقًا وغربًا. إنّ النّقد الّذي يوجّه الألمان إلى غراس لم يأت لكونه في سنّ الشّباب كان قد انضمّ إلى كتائب النّظام، إذ أنّ هناك كثيرين في ألمانيا انضموا في تلك الآونة إلى تلك الكتائب، ولا يُوجّه إليهم النّقد الآن. إنّما النّقد الّذي يوجّهه الألمان إلى غراس نابع من مكان آخر. فطالما عرض غراس نفسه وكأنّه صوت أخلاقي يُحاسب آخرين على مواقفهم، واضعًا نفسه في مكان لا يتّسع لوجوده بعد هذا الكشف. كان بوسعه أن يكشف عن هذا الماضي ماضيه، وأن يجري حسابًا مع نفسه قبل أن يُحاسب الآخرين. لكن، وبعد أن أخفى هذه الحقيقة طوال هذه القرون، فقد قطع الفرع الّذي يجلس عليه. هذه هي حقيقة النّقد الّذي يوجّه إليه.

أمّا أن ترى كلّ هؤلاء الموقّعين من العرب على بيان من هذا النّوع، فهو مثار للسّخرية. منذ متى يتّخذ هؤلاء مواقف أخلاقيّة؟ طالما دعم هؤلاء الموقّعون الأنظمة الاستبداديّة في بلدان العرب. كما أنّهم لم يوقّعوا البيانات عندما زجّت تلك الأنظمة ببعض الكتّاب العرب الأحرار في غياهب السّجون، ناهيك عن حظر نشر مؤلّفاتهم.

المواقف الأخلاقيّة هي تلك الّتي يتّخذها الكتّاب في بلدانهم، رافعين صوتًا ضدّ الأنظمة الّتي أناخت كلكلها على صدور شعوبهم، وما لم يفعلوا ذلك، فلا قيمة لأيّ موقف قد يتظاهرون باتّخاذه في أمور خارج بلدانهم. هذه الحقيقة يجب أن تبقى نصب أعين القرّاء عندما يشاهدون هذا النّوع من البيانات. فلا يغترّنّ أحدٌ بشيء من هذه البيانات، أو من هذه الأسماء.

ويدعو هؤلاء الموقّعون من العالم quot;أن يساندنا في معركتنا مع الذين يشنون علينا حرب الابادة منذ نصف قرنquot;، كما ورد في البيان. وبالنّظر إلى بلدان الموقّعين نرى أنّ غالبيّتهم من مصر واليمن. والسؤال المطروح هو من يشنّ حرب إبادة ضدّ مصر واليمن، أو المغرب، مثلاً؟ أم أنّ الكلام كما يُقال، يُلقى على عواهنه دون النّظر إلى ما يحويه هذا الكلام من دعاوى؟ وإذا كان البيان يشير إلى المعاناة الفلسطيننيّة، فإنّ هنالك شيئًا آخر لا بدّ من الإشارة إليه وهو أنّه لا يوجد أيّ اسم لكاتب أو شاعر فلسطيني قد وقّع على هذا البيان. كلّ هذا ناهيك عن الأسماء الأخرى الّتي غابت عن هذا البيان.
ألا تشكّل هذه الحقيقة مادّة للتّفكير؟ إذن، هيّا فكّروا، أدامكم الله!

salman.masalha at gmail.com