الخطاب الذي ألقاه بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر في إحدى الجامعات الألمانية، ما يزال يثير ردود أفعال عدة على مستوى العالم العربي والإسلامي. ورغم أن الفاتيكان في روما أصدر توضيحاً، نفى فيه أن يكون البابا قصدَ الإساءة إلى الإسلام كدين، إلا أن ردود الفعل تلك، ما تزال متواصلة، والأغلب أنها ستتواصل في المدى المنظور. ربما بما يعيدنا، مرة أخرى، إلى ذكرى ما حدث مع قضية الرسوم الكاريكاتيرية، قبل شهور، وما ترتب عليها من ردود أفعال، معظمها غير عقلاني ولا منطقي بالمرة.

لم أستمع، حتى اللحظة، إلى ترجمة حرفية لخطاب البابا، وعليه أكتفي بما ورد في وسائل الإعلام quot;العربيةquot; عنه. ولقد تناقلت هذه الوسائل، عدة أقوال للبابا، بعضها لا يهمّني، وبعضها الآخر، استوقفني، وفي الحق، أثار لدي شجوناً، وعزفَ على وتر حساس. من هذا البعض، قول البابا، والعهدة على الناقل، أنّ quot;إرادة الله في العقيدة الإسلامية لا تخضع للعقلquot;.

القول ظاهراً، قد يستفزّ العقل العربي الانفعالي، إن جاز لصق صفة الانفعال بالعقل، لكنه باطناً، قول صحيح، في جوانب كثيرة منه. ومع أن هذه المسألة برمتها، مسألة ثقافية وفكرية وفلسفية من الطراز الأول: بمعنى أنها من اختصاص شريحة الإنتجلنسيا بالاصطلاح الروسي القديم، إلا أنّ من تصدى لها حتى الآن منا، هم فقط قادة الإسلام السياسي، وبعض الدعاة التقليديين، كحسن الترابي ويوسف القرضاوي وسواهم.

لن نعود إلى موضوعة الجبر والاختيار في الإسلام، رغم أن موضوعنا الحاضر يذكّرنا بها، فلقد قيل أكثر من الكثير في تفنيد كل جوانب الاختلاف والافتراق بين الجانبين المتخاصمين حول تلك الموضوعة. ولن نعود إلى المدارس الفكرية كالمعتزلة وغيرهم، ونذكّر بأقوالهم واجتهاداتهم ، لئلا تكبر مساحة مقالنا، ولكننا سنركّز على النتيجة، التي خرجَ بها عموم المسلمين، قديماً، من ذلك السجال، والتي ثبتتْ بعد ذلك، وما زالت فاعلة ومستمرة في الفعل حتى اليوم، وبالأخص في الإسلام السنّي، وهي أنّ الجبر الإلهي أقوى من الاختيار البشري، بما لا يقاس، وأن إرادة الله فوق إرادة البشر. بل في الحق، فإن إرادة الله لها الكلمة العليا والوحيدة والفصل ولا إرادة للبشر من أصله، فالبشر، أعني المسلمين، مسيّرون لا مخيّرون.

هذا هو التأويل الشائع الدارج في عالمنا الإسلامي اليوم، سواء السني منه أو الشيعي. هذا هو التأويل ذو الإجماع. ولقد تبنته كل قوى الإسلام السياسي والأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين منذ فجر الدين الوليد وحتى يوم الناس هذا. بل إنه يكاد يشكّل ديناً شعبوياً لكل قوانا ولكل شرائح مجتمعاتنا، سواء المتعلّمة منها أو الجاهلة.
فإذا جاء بابا الفاتيكان، وقال إنّ إرادة الله في العقيدة الإسلامية لا تخضع للعقل، فهو إنما اكتشف قديماً ولم يأت بجديد، بل هو شيء نعرفه كمواطنين عاديين: كعامة، وكنخبة معاً. نعم: في بلادنا إرادة الله لا تخضع للعقل. ولو جاءت هذه المقولة في سياق آخر، بعيداً عن شخص البابا، بما يحمله من ثقل أيقوني ورمزي هائل: لو جاءت مثلاً على لسان شاب مسلم قاعدي أو عادي، في مسجد ما، فإنها حينئذ ستحظى برضانا وموافقتنا بل وربما تقريظنا ومديحنا لتديّن الشاب وحُسن إسلامه!

فلا إرادة في ديننا غير إرادة الله. فلماذا إذاً يزعل مسلمو أيامنا من قول البابا الذي لا جديد فيه ؟ إنّ الحبر الأعظم، أعاد اكتشاف الماء الساخن فحسب، كما يمكن القول، ولم يكتشف شيئاً آخر قط. فلمَ كل هذه الردود المنفعلة، والمحيلة إيانا إلى إرث تاريخي دامٍ كالحروب الصليبية وإعادة إحيائها إلخ؟

في الواقع، فإني لا أفهم، أنا أيضاً، كيف quot;يعملquot; العقل العربي والإسلامي. وما هي آلياته ومناهجه وطرائقه في التفكير. فالبابا أشار إلى حقيقة فقهية في الإسلام، تكاد تكون ديناً شعبوياً لنا جميعاً كما أسلفت: إذ مَن منا، مِن عرب ومسلمي هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها، يؤمن بأن إرادة الله تخضع للعقل ؟ لا أحد تقريباً، سوى من لهم طريقهم الخاص في التفكير واستقلاليتهم عن نعيق القطيع، وهم قلّة القلّة.

فإرادة الله، في ديننا، تجلّ عن الفهم البشري، وبالتالي هي فوق مستوى العقل البشري. بل لقد قيل إنّ هذه الإرادة، حتى لو أتت بما يعتبره البشر شراً وألماً، فإنما ذلك يكون في صالح البشر، ولحكمة إلهية تجلّ وتسمو عن تفكيرنا المحدود وطرق فهمنا كبشر محدودين فانين. فالله يعلم ونحن لا نعلم.

وكم من قصة تؤكد هذا المنحى الثابت في جيناتنا كمسلمين. وفقط سأستشهد بمثالين، أحدهما قديم نسبياً، والثاني حدثَ قبل أيام ورأيته في إحدى فضائياتنا الشهيرة. المثال الأول يتعلّق بالبيت الشعري الأشهر لأبي القاسم الشابي، شاعر تونس والعرب وثورات التحرر الوطني: فحين قال [ إذا الشعب يوماً أراد الحياة..... فلا بد أن يستجيب القدر ] كمديح لأرادة الناس والشعوب المقهورة في وجه مستعمريها وطغاتها المحليين، قامت قيامة رجال الدين عندنا ولم تقعد: كيف يتكلّم عن إرادة الشعوب التي تعنو لها الأقدار الإلهية، وكيف ينسى إرادة الله، التي هي فوق كل الإرادات وأصل جميع الإرادات؟ إنّ هذا كفر صراح، ولا يقوله إلا شاعر كافر. أجل، لقد كُفّر أبو القاسم الشابي الشاب، دون أن يدري، من وراء بيت شعره العظيم هذا. بل إني أعرف أساتذة جامعيين وكذا مدرّسين في بلادي، يتعاملون معه، إلى اليوم، على أنه زنديق وكافر، وعلى أنّ مناهجهم التعليمية، هي الأخرى زنديقة وكافرة، لأنها قرّرت تدريسه للتلاميذ!
فلا إرادة لا للشعوب ولا للأفراد، في عرف هؤلاء. والإرادة فقط لله ولله وحده. إي إنها إرادة لا تخضع للعقل، ولا لمقاييس العقل، فلماذا يزعلون من البابا، وما هذا النفاق والكذب على الذات، قبل النفاق والكذب على الآخرين ؟

المثال الثاني، الساخن، حصل مع جوليا بطرس المغنية اللبنانية المعروفة، ذات الاتجاه الفني الرصين والملتزم، قبل أيام أو أسبوع لا غير. فحين خطبَ الشيخ حسن نصر موجهاً خطابه لقوات ومقاتلي حزبه، رأت جوليا تحويل ذلك الخطاب الذي أثّر في مشاعرها، إلى قصيدة مغناة، تؤديها هي، وتهديها للمقاومة. وبالفعل تم تأليف القصيدة [ على المقاس! ]، ووردَ بين أبياتها بيتٌ يحيل أيضاً على إرادة البشر، فنصحها شيخٌ من حزب الله، بتغيير البيت، خوفاً من سوء التأويل والتباس الفهم، وبالذات لأنها مسيحية، فما كان منها إلا الرضوخ لملاحظته، وهكذا فعلت في الأخير جوليا. أي نفت إرادة المقاومين، بصفتهم بشراً لا يحق لهم أن يُريدوا، وأحالت القضية كلها على الله وإرادة الله.

هذا هو حالنا، في الفن، فما بالك على أرض الواقع ؟ وإذا كان الفن، كبديهة، أرقى وأوسع أفقاً من محددات وشروط الواقع، ومع ذلك فهو على هذا النحو المظلم والفاجع، فما بالك بما يحدث بين ظهرانينا، صباح مساء، من قصص وحكايا وقضايا قروسطوية، تثير القشعريرة في الأبدان ؟ وتحيل على واقع عربي وإسلامي شديد التخلف، ولا يريد، وهو في ذروة أزمته، أية يد داخلية أو خارجية، تأتي وتحاول انتشاله من وهدة هذا التخلف الحارق الخارق!

بماذا نخرج من هذه القضية ؟ نخرج بأننا مصرّون على تخلفنا، وكأنه كنز لا يُضاهى بين أيدينا . ونخرج بأننا أبعد الناس قاطبة، عن مساءلة ذاتنا وتاريخنا وتأويلاتنا الفظيعة لديننا. كذلك نستخلص، بأننا بعدُ أمامنا مشوارٌ جد طويل حتى نصل إلى الدروب الموصلة. فدُعاتنا يزيدوننا جهلاً وتعمية وبؤساً، ومثقفونا يجبنون، طلباً لسلامة النفس، على مواجهة والتصدي لأعتى نزعات التطرف العدمي الإسلاموي، التي ستحرق الأخضر واليابس، ولن تُبقي علينا إلا كشعوب منذورة للفشل التاريخي ولأبجديات الرماد!

إننا نطالب هؤلاء الذين طالبوا البابا بالاعتذار، أن يعتذروا هم أيضاً لشعوبهم المغلوبة على أمرها، فهم أيضاً، هؤلاء الدعاة، سبب آخر في تكريس هذا الجهل الدهري وهذا التخلف الأطول من الطويل!

كلا لم يخطىء البابا في قوله السابق، مثلما لم يخطىء الكثير من مفكرينا الأحرار التنويريين حين قالوا نفس القول وبمحتوى أبعد وأعمق. وإنما أخطأ حدّ الخطيئة، مَن نفى إرادة البشر منذ فجر التاريخ الإسلامي، لحساب إرادة الله، فجعل من مواطنيه شعوباً عاجزة سلبية فاقدة لأدنى مقوّمات الحياة. فبإرادة البشر وحدها، تُبنى الأوطان، وتتقدم مسيرة الحضارة الإنسانية، وترتقي الشعوب من مستواها الحيواني إلى مستواها البشري اللائق بها وبعذاباتها، عبر مسيرة طويلة جليلة من تجريب الخطأ والصواب.

البابا قال ما قاله، ولم يكن فلتة لسان، وإنما هو صادر عن قناعات عقلية وفكرية راسخة. قناعات يؤمن بها قطاع عريض من المثقفين العرب، لكنهم يجبنون عن كتابتها ومواجهة الناس بها، لذا يكتفون بترديدها في صالوناتهم ومجالسهم الخاصة. هذه هي كل الحكاية!