ركن الغوغائيون والدهماء في تنصيبهم الديكتاتورالآفل صدام حسين quot;شهيد العصرquot; وquot;سيد الشهداءquot; إلى التضيحة به يوم عيد الأضحى ومارافق ذاك الطقس القرباني العراقي الأصيل، من شعارات طائفية ألهبت مشاعر الأمة العربية السنّية، المرابطة في خندق الجهاد ذاك. ولو لم تصادف لحظة زف صدام للدار الآخرة، وهي اللحظة التي مات دون رؤيتها مئات الآلاف من الذين فجعهم صدام بعزيز، لكان الشارع العربي ومثقفوا quot;معركة الأمة المصيريةquot; من جماعة الكوبونات، قد ابتدعوا حجة أخرى للأستدلال على quot;رباطة جأشquot; قائدهم وquot;إيمانه باللهquot; في وقفته أمام المقصلة البغدادية تلك. وجاءت الشعارات الطائفية التي أطلقها بعض رعاع رجل الدين الطائش مقتدى الصدر، لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث انها أثارت الأمة وألهبت الحماس في نفوس مجاهديها( في ظل هذا الجو الموبوء بفتاوي شيوخ التكفير، الملغمة بالموت ونشر الخراب) فخرجت للتظاهر بعد الإشارة الخضراء من وزير الداخلية وقادة أفرع المخابرات.
والمتابع للكتابات والتصريحات والخطب والشعارات التي أطلقها الصداميون العرب، سوف يجد المتن فيها تلك التصريحات الطائفية التي أطلقها أتباع مقتدى الصدر ساعة شد الحبل حول رقبة ملهمهم. لقد أعادت هذه الهفوة صورة البطل صدام، فارس العرب وحامي البوابة الشرقية( من الفرس المجوس، الشيعّة!!) بعد أن كانت صورته quot;المبهدلةquot; تلك، وهو يٌسحب من حفرة العنكبوت كالجرذ المذعور على يد جندي المارينز، قد طغت على المشهد، ونشرت الحزن والصدمة في بلاد العرب الكبيرة: بأطرافها المترامية، وحواريها العشوائية الواسعة، ومدن الصفيح التي أبدعتها الأنظمة التحررية، الثورية، المجاهدة، وسبحان المبدع الخلاق...
الذين إنتقدوا الإعدام، وهبوا للدفاع عن صدام، بإستثناء قلة قليلة مفضوحة، تجاهر بالإنتماء لفكره وأخلاقه، لم يعتمدوا في دفاعهم هذا إلا على هذين الأمرين: توقيت إعدامه وشعارات جماعة مقتدى ضده!. أما الجرائم التي أودت به إلى هذه النهاية، والكوارث التي الحقها هذا الرجل بالعرب والعجم، فلم يأت على ذكرها أحد. مرّ عليها البعض من جماعة quot;الأولوية للمعركةquot; وquot;مقارعة المشروع الأميركيquot; سريعاً، وفي بضع كلمات زائغة، ليفردوا الصفحات الطوال بعدها للطعن والضرب في quot;الحكومة العميلة لأميركاquot; وquot;المشروع الإيرانيquot; وquot;اليد الإسرائيليةquot; وquot;المؤامرة الكرديةquot;، وماشابه من معزوفات الإسطوانة القومجية المشروخة تلك.
والحال، ان صدام إستحق الإعدام. بل نال أقل مما يستحق، فهو الذي قال ذات مرة بأنه لن يخرج من بين أيدي العراقيين، فيما لو قيض لهم محاسبته، سوى مئات مئات القطع اللحمية الصغيرة. وكان ذلك واقعاً لامحالة لو أن quot;الحكومة العميلةquot; قررت تسليمه لأيدي العراقيين ليقتصوا منه بطريقتهم الشهيرة، المبدعة تلك: السحل..!. لكن الإعدام جاء لتطوى صفحته للأبد، وتستكمل اللائحة،حين لحاق بقية أعونه به من برزان ووطبان وسلطان وبقية الرهط المجرم..
في أمر إعدام صدام لم تكن الهبّة الشوارعية العربية هي المفاجأة، بقدر ماكان إستغلال بعض الأنظمة التي سلمت للأميركان مافوقها وماتحتها، خشية من العصف الرهيب، للحدث وإعلانها الزعل على quot;رحيل الرئيس العراقي السابقquot;، ونشر اللون الأسود وضرب خيام العزاء والحداد. عجيب أمر هؤلاء يدفعون بالسر وquot;يزعبرونquot; بالعلانية. البعض دفع بنظريته الرائجة في quot;التصدي للمشروع الإيرانيquot; وركزّ في إعتراضه على البعد الطائفي لحادثة الإعدام وأشار للفتوى القادمة من الضفة الأخرى للخليج العربي بضرورة تصفيته قبل هل هلال العيد. البعض الآخر وجد في الأمر فرصة طيبة لإخراج quot;القطيع من الحظيرةquot; وquot;تنفيسهquot; قليلاً عبر الخروج والإستنكار وعرض الحال بالمسدسات والرشاشات، وتبيان الرجولة والوعيد بالرد بالمثل( في الزمان والمكان المناسبين طبعاً!) قبل أن يٌساسوا مرة أخرى للعودة إلى الحظيرة، بمعية المخابرات والعسس الوطني...
مات صدام إذن. لكن الشعوب العربية المتهالكة والمحبطة لاتريد أن تصدق. إنها بحاجة لرمز وملهم ما في مواجهة كم هذه الهزائم التي باتت لاتحتمل. بحاجة لمعبود تلوك أخباره وتنشغل في وصفه بضع سنين أخرى إزاء كل هذا الذل والهوان الذي تتعرض له يمنة ويسرة. لكن المؤلم في الأمر إن هذا المعبود فقد كل بريقه، لم يٌبق الأميركان وأعوانهم أية مأثرة يتغنى بها أتباعه من بعده. لقد أحرقوا جميع كروته أثناء هزيمة قواته و(جيش القدس) العرمرم الذي كان يتوعد به القاصي والداني، في ظرف ثلاثة أسابيع، ومن ثم سحبه من الحفرة الحقيرة تلك أشعثاً، مقملاً. حدث ذلك مع عبدالناصر أيضاً، والذي إنشغل لأعوام طوال في رسم صورة quot;المخلصquot; وquot;معبود الشعبquot; لنفسه، قبل أن يتلقى هزيمة منكرة أرجعت بالأمة العربية عشرات السنين للوراء، وضيعت أرضها وزادت في قوة وبأس أعدائها.
صدام أراد نفسه المخلص الموعود الذي سوف يٌعيد للأمة أمجادها، وكنى نفسه quot;بالقائد الضرورةquot;، فكانت النتيجة إنه سقط في حفرة وخرج منها للمقصلة تاركاً ورائه أمة مقسمة، وبلداً محطماً و مقابراً جماعية وإرثاً حقيراً مازال يقتل ويفجر ويمزق في أجساد العراقيين كل يوم. ومافعلته الدهماء في الشوارع العربية في الأيام القليلة الماضية، هو أنها تمسكت بهذا القاتل صانعة منه معبودها، والذي أصبح ضرورة وجودية لتتغنى به، وهي تهرول وراء لقمة الخبز، في هذه الحياة التي أصبحت، ومع كل هؤلاء اللصوص وأولادهم وأحفادهم، جحيماً لاتطاق...
التعليقات