طريق الهفوات الذي تسلكه الحكومة العراقية، يأخذها الى ما لا نتمناه، ولن يشفع لها أن يكون هذا الطريق معبّداً بالنوايا الحسنة، فليس بالنوايا وحدها تبنى الأوطان..
وكم ذا تمنينا- حيث لا تنال المطالب بالأمنيات- أن تكون الحكومة العراقية أشد حذرا في هذه السنة الجديدة، ولن ترتكب هفوات جديدة، خاصة، بعد أن ختمت سنة إعدام الديكتاتور بأخطاء ستبقى مثار نقاش إلى وقت طويل.
أول عثرات هذه السنة وجدته في احتفال حكومتنا المنتخبة بالذكرى السادسة والثمانين لتأسيس الجيش العراقي؛عيد الجيش!. و ليّ أن أضع اعتراضي بجملة أسئلة يحق لأهل العراق أكثر من غيرهم، طرحها، والإجابة عنها:
هل ثمة جيش عراقي بمعنى ما تحمله الكلمة؛ من عراق ووطن تأسس في ذلك التاريخ القديم؟.
وهل يرتبط بالفعل، تاريخاً وامتداداً، بجيش العراق الحالي؟.
أو يستحق ذلك الجيش أن تحمل هذه الأجيال عناء الاحتفال به والإشادة بأمجاده؟. وهل ثمة أمجاد تذكر أصلا، وأين ومتى؟.
التاريخ يروي أن القوات البريطانية في العراق رأت بعد ثورة العشرين من القرن الماضي، إن تأسيس جيش عراقي موال لها أصبح أمرا ضرورياً بعد مصادمات ومواجهات عنيفة بين الأهالي وجيش الاحتلال، فتأسس أول فوج عراقي باسم فوج موسى الكاظم.ويشير المؤرخ العراقي علي الوردي غير مرّة إلى الخديعة في ما حمله هذا الاسم، إشارة إلى استرضاء أطراف quot;شيعيةquot; في اسم فوج ضمّ ضباطاً كانوا في الجيش العثماني ويدينون بالولاء الكامل لانتمائهم السابق.وهذه دلالة أولى على وجود توجهات طائفية وغير وطنية في الأصل لتشكيل هذا الجيش الذي أخذ على عاتقه منذ أيامه الأولى محاسبة القبائل والمناطق التي واجهت القوات المحتلة، إثر فشل الدولة بإرساء القانون، حتى اشتكى ملك العراق وقتها من ان عشرة أضعاف السلاح كان خارج سيطرة الدولة، وكان الحل أيامها بتقوية سلطة الحكومة بنفوذ الجيش، ومنذ ذلك التاريخ سعى العسكر لإدامة الاستبداد والعمل على تشكيل طبقات عسكرية رسمت تاريخاً مرعباً للعراق، أربكت دولته الوطنية وأحدثت فيها تشوهات هائلة. بل إن المؤسسة العسكرية في العراق تتحمل وزر كل التاريخ الأسود من الانقلابات وأعمال العنف والحروب.
مناسبة الاحتفال الأخيرة بذكرى تأسيس الجيش استهلها رئيس الوزراء العراقي بخطاب نشرت وسائل الإعلام العربية والعالمية مقاطع منه، وصادف إن قرأت اليوم بداية الخطاب الموجّه الطويل :quot; أيها الشعب العراقي العزيز يا أبناء قواتنا المسلحة الباسلة.. نحتفل اليوم بالذكرى السنوية السادسة والثمانين لتأسيس الجيش العراقي الذي تخلص من حكم الدكتاتورية البغيض..quot;.فأي جيش خاطب السيد المالكي؟، هل كان مخاطبا ً لجيش العراق ذي العقود الثمانية، أم وجّه كلماته لجيش ما بعد قرار الحاكم المدني بول بريمر الذي أعلن نهاية رسمية للجيش العراقي يوم 23 نيسان 2003، وبقرار تضمن حل هذا الجيش نهائياً وحل كل القوى العسكرية وشبه العسكرية المرتبطة به؟.
في خطاب السيد المالكي استغربت لأمرين، الأول في إصرار الحكومة العراقية على انتماء القوات العراقية المشكلة حديثاً، الى الجيش العراقي بكل تأريخه، رغم إنها اصطفت من بين صفوف الجيش السابق مجاميع أسست بها الوحدات الجديدة، وكان الأجدر هنا أن تكون الحكومة بجرأة ضباط الجيش العثماني الذين أسسوا الجيش العراقي للمرة الثانية لحظة إصرارهم على إلغاء تاريخ تأسيس جيش مدحت باشا العثماني.
الأمر الثاني الذي أثار استغرابي أن ينشر خطاب السيد المالكي بالتزامن ونشر وقائع آخر جلسات محكمة الأنفال، والتي بدا فيها مقعد القائد العام للجيش العراقي السابق خالياً بعد إعدامه، لكن صوته كان حاضراً في حديثٍ وأدلة جديدة تفضح جرائم الجيش باستخدام الأسلحة الكمياوية ضد الشعب العراقي. في الأدلة الصوتية تحدث قادة من عسكر الطاغية كانوا يخططون للمزيد من الجرائم، ويتأسفون لقلّة أعداد من أصابهم حصب الأسلحة الكيمياوية.مع أملهم الأسود بتجريب كل الأنواع الفتاكة من هذه الأسلحة في وقت لاحق. المدعي العام قال بالحرف الواحد: لا مجال لتوجيه تهمة جديدة لصدام بعد إغلاق ملفه، ولكن هذه الأدلة فيها إثبات على تنفيذ أوامره من قبل بعض المسؤولين وقادة الجيش ممن يتحملون وزر الاشتراك في جرائم الإبادة.فهل بعد هذا بالامكان حساب فترة معركة الأنفال المشئومة ضمن عمر الجيش العراقي، كجيش وطني واجب على الجميع الاحتفاء بأمجاده والاحتفال بأيامه كلّها، بما حوته من فترات مرعبة وقاسية وفجّة لم يحمل التاريخ منها إلى العلن الكثير، خاصة في أيام الحرب العراقية الإيرانية، واحتلال الكويت، والتصفيات والمواجهات الداخلية؟.فأحداث قمع انتفاضة الشعب العراقي أثناء وبعيد تحرير الكويت، سجلت بوضوح دامغ عنف هذه المؤسسة وانتمائها القطيعي للطاغية، حتى أصبحت كلمة quot;دخل الجيش إلى المدينةquot;كلمة يتداولها الأهالي بألمِ ورعبِ الساعات، لمشاهد تفتيش البيوت والأزقة، وهلع الناس في تشاورهم بكلمة يعرف طعمها أهل الجنوب أكثر من غيرهم وهم يسمعون كلمةquot;طَبْ الجيشquot; -أي دخل بالشعبي العراقي- فيا ويل المدينة بعدها!.
فبأي جيش يحتفلون وهم لا يقتطعون من عمره تلك الأيام المريرة؟.
وأي جيش ذلك الذي سلّم وزير دفاعه العراق على طبق من ذهب، بعد أن وقع على وثيقة صفوان التي تبعها ما تبعها من إذلال وتجويع للشعب العراقي شريطة بقاء نظام الطاغية؟.
أفبعد كلّ هذا ما زال ثمة من يردد قولاً قاله الجواهري أملا بتغيير لم يحدث: جيش العراق ولمْ أزل بك مؤمنا.. وبأنك الأمل المرجى والمنى.
هكذا تبدو الحكومة العراقية حتى هذه اللحظة من عمر شرعيتها قلقة في اتخاذ قراراتها، ومن يدقق الوقائع الحكومية منذ تشكيلها والى الآن سيكتشف العجالة ببعض القرارات أو إفتقارها بشكل يثير الانتباه إلى أية دراسة موضوعية، ترفع عناء اللوم لاحقا، حتى لكأن الحكومة تدور مع الأسطوانة المعطوبة مثلما يقول المثل، فهي في كل مناسبة أو حدث ترتطم بتناقض ما تحمله هذه المناسبة من وقائع ودلالات تشير من قريب او بعيد الى فترة الطاغية وحكمه.وأهم دليل على هذا القول دوامة العلم والنشيد الوطني العراقي التي لم تنته بعد.وإذا كان الأمر في بعض جوانبه يحتاج الى دراسة وحسن اختيار، فأن الجانب الأهم في الحكاية يرتكز الى الجرأة التي أجد ان هذه الحكومة أولى بها الآن لحسم الكثير من المواضيع الشكلية التي سيخلق تراكمها أخطار مبيرة على شكل الدولة الوليدة، ومن هذه القرارات الشكلية حسب اعتقادي ؛ ضرورة نسيان أي تاريخ للجيش العراقي خارج إطار دولة ما بعد 2003 لأنها البداية التي لابد أن تبدأ بها أول الأشياء الصحيحة وأفضلها.
التعليقات