كان من اللافت، في توصيفنا للحالة العراقية واللبنانية، أنّ التنظيمات الحزبية، المتنوعة، المتبنية للفكر الإسلامي، بشقيْه السني والشيعي، قد وجدت نفسها مرغمة (لو صحّ التعبير) على قبول اللعبة الديمقراطية ـ كوسيلة للوصول إلى السلطة ؛ أو على الأقل، للهيمنة على القرار السياسي في بلدانها. فالديمقراطية كمفهوم وبنية ـ وهذا ما سبق لنا
الحلقة الأولى |
ليسَ الفكر الأخواني، المستند أساساً على تعاليم سيّد قطب، سوى مظهراً لتلك quot; الإزدواجية quot; التي تحكمت في فكر أهل النهضة، الموصوف آنفاً : أيْ تبني بعض جوانب الحداثة، الغربية، في سبيل مواجهة الهيمنة الغربية على مقدراتنا. ومع إنحسار الموجة النهضوية، خصوصاً في المقامات الدينية، كان من المفهوم إذاً، أنّ شعبيّة الأخوان المسلمين، المتعاظمة منذئذٍ، إنما تعود إلى إزدهار ثقافة quot; المواجهة quot; تلك، خصوصاً وأنّ أكثر دول المشرق كانت وقتها غير حرة في تقرير مصيرها. بيْدَ أنّ العهد الإستقلالي، المصاقب عموماً لنهاية الحرب العالمية الثانية، ما كان منه إلا أن أحبط آمال الطبقات الفقيرة والمتوسطة، على السواء ؛ بشيوع مظاهر الفساد والبيروقراطية وكبت الحريات أو التضييق عليها. هنا أيضاً، توجه إصبع الإتهام إلى الغرب الأوروبي، والأمريكي لاحقاً، بدعم أنظمتنا تلك، الفاسدة، بما قيل عن الرغبة في إعادة الهيمنة على المشرق، إنما بوسائل إقتصادية لا عسكرية : وكان الفكر الأخواني، بطبيعة الحال، حاضراً في هذه المواجهة الجديدة مع الغرب ومع من رأى أنهم عملاؤه في السلطة ؛ كما في حالة الملك فاروق وحاشيته. إن تبني جماعة الأخوان المسلمين، في نسختها المصرية، لما أضحى منعوتاً بـ quot; ثقافة المقاومة quot; قد وجدَ مبتدأً له في تلك المرحلة، الموسومة، بالشروع في تنظيم الفتية في خلايا مقاتلة، عاملة في المدن وقنال السويس ضد الجند البريطانيين، بشكل أساس. ولكن المشروع الإخواني، لإقامة quot; سلطة الله على الأرض quot; ما أسرع أن تلاشى في مصر، أولاً، مع الإنقلاب العسكريّ في تموز 1952، الموصل طغمة الناصريين للحكم، محملين بمشروع آخر، مناقض للأول ؛ وهوَ مشروع القومية العربية. بالمقابل، لم يتمكن العهد الجديد هذا من القضاء الفعليّ على جماعة الإخوان المصرية، وعلى الرغم من القمع الشديد المسلط ضد منتسبيها ومناصريها : فالفكر الإخواني، كان ثمة في quot; الأزهر الشريف quot; وغيره من الصروح الدينية، قد أمسى من الترسّخ والثبات أنه شكل في حينه، وحتى يومنا الحاضر، التحدي الأكبر للسلطة السياسية وبوصفه القوة الروحية المعارضة المؤثرة ؛ القوة الفعالة أكثر من غيرها، بما كان من مآثر الحكم الفرديّ، ناصرياً كان أم ساداتياً أم مباركياً، في محاربة التيارات العلمانية، السياسية والفكرية..
كانت قضية فلسطين، طوال العقود الستة المتصرّمة، هي اليافطة التي تصدّرتْ كل إستيلاء عسكريّ على سدّة السلطة في هذا البلد العربيّ أو ذاك. من جانبهم، هرع أهلُ المشروع الإسلاميّ إلى الإستثمار في حقل تلك القضية، المتخم بالجثث والدم، سعياً إلى زيادة أرصدتهم، الشعبية. لا غروَ إذاً، أن يتقدم إسلاميو الإخوان وأضرابهم تلكَ الطوابير الداعية إلى المجاهدة من أجل تحرير القدس الشريف من اليهود ؛ وهمُ النافخون أصلاً في بوق quot; الحرب المقدسة quot; ضد الغرب، الذي يُعدّونه تارة صليبياً واخرى ملحداً. ويبدو أنّ بعضاً من أفراد النواة، الأولى، لحركة quot; فتح quot;، التي أسسها ياسر عرفات، كان بهذه الدرجة أو تلك، من المتعاطفين مع الفكر الإخواني. إلا أنّ ذلك الأمر، للحقيقة، ما كان له أن يتجاوز عتبة البدايات قط. فالحركة، تطبّعتْ عموماً بخلق أبي عمار، مؤسسها ؛ هذا الرجل الكاريزميّ، الذي كان في آن واقعياً وبراغماتياً، عرفَ في أغلب مراحل نضاله كيف يحافظ على قدمَيْه وسط حقول الألغام والأخطار. أكثر من معادلة، إقليمية ومحلية، أسهم في إنبثاق حركة فلسطينية اخرى ؛ أصولية هذه المرة : إنّ حركة المقاومة الإسلامية quot; حماس quot;، قد تكون فعلاً من بقايا التجمعات الإخوانية، المبعثرة، في الأرض المحتلة. ولكننا، بحسب شواهد عديدة، نؤكد هنا على العامل الإقليمي، الذي أتاح لهذه الحركة حظ النجاح في إستقطاب قسم كبير، غالب، من الشعب الفلسطيني، خصوصاً في غزة والضفة الغربية. فمنذ فجر إنطلاقتها، تحتمَ على منظمة التحرير الفلسطينية، المتركنة أساساً في المنافي العربية، أن ترى في شخص دكتاتور سورية البائد، الأسد الأب، خصماً لدوداً لقضيتها الوطنية، لا يقلّ في الواقع عما كانه عدوّها الرئيس، الإسرائيلي. غنيّ عن البحث هنا، ما ألحقه ديكتاتورنا بتلك القضية من مآس ونكبات ومجازر، علاوة على دأبه وإصراره على شق المنظمة وإحتوائها ومن ثمّ شلها نهائياً. الهدف الأخير، ربما لاقى نجاحاً ملحوظاً، تتوّج في عهد الوريث الأسديّ، الإبن، في إكتساح حركة quot; حماس quot; لصناديق الإنتخابات البرلمانية والبلدية، الأخيرة، وتشكيلها للحكومة. لن نكون متجنين هنا، إذا ما أكدنا أنّ إسلاميي الحركة، وهم على كراسي الحكم، لم ينجزوا شيئاً مجدياً لشعبهم المنكوب ؛ اللهمّ إلا هذا الدرس، البليغ، المتعيّن على شعوبنا المشرقية، عامة، أن تتبلّغه : وهوَ خطر الأصولية، المنعوتة بـ quot; الإسلام السياسيّ quot; على المجتمع ومكوناته وثقافاته ؛ سواءً بسواء، أكانت في موقع المعارضة أم السلطة.
قلنا أنّ النظام الأسدي، في عهدَيْه الجمهوري والملكي (!)، قد حقق حلمه في إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثمّ إفقادها سلطتها، الوطنية. لا ننكر بطبيعة الحال، أنّ فساداً مستطيراً، قد أثخن جسد تلك السلطة بفعل الزعامات والولاءات. على أنّ إنتقال السلطة هذه إلى أيدي حركة quot; حماس quot;، قد أعاد الوضع السياسي الفلسطيني، إلى الوراء، عقوداً مريرة من الأعوام ؛ إلى النقطة نفسها، التي كانت فيها منظمة التحرير، الممثلة الوحيدة الشرعية للشعب الفلسطيني، موصومة من لدن الغرب بـ quot; الإرهاب quot; : هوَ ذا العامل، الإقليمي، يطل برأسه مجدداً من كوة القضية الفلسطينية. فلأعوام طوال، كان الأسد الأب يطرح نفسه، ونظامه، قدّام ذلك الغرب (وإسرائيل بالتالي)، بوصفه كابحاً لجماح التطرف الفلسطيني، وخصوصاً في لبنان ؛ البلد المحوّل بحوْل إستراتيجيته، الخبيثة، إلى مزرعة للنهب والسلب والإبتزاز، لقاء الوصاية عليه ـ كشرطيّ حارس. إيران، أيضاً، لم تكن ببعيدة عن اللعبة الأسدية، الموصوفة، خصوصاً في المرحلة التي أعقبت غزو العراق، وخشية حكامها من اللحاق بمصير صدّام ونظامه، وما كان من محاولتهم إرهاب الأمريكيين والأوروبيين بقنبلة ذرية quot; إسلامية quot;. وإذ أضحتْ طهران كما لو أنها quot; بنكٌ إسلاميّ quot;، نظيف الأموال ـ كذا، للحركات المتطرفة في العراق ولبنان وفلسطين، فإنما لكي تسهم أموالها تلك في إشعال حرائق الحرب الأهلية في كل من البلدان المذكورة. بالتالي، وبحسب تفكير الملالي الإيرانيين وحلفائهم البعثيين السوريين، يتمّ خلط أوراق القضيتين، النووية والحريرية، حيال المجتمع الدولي ويُصار من ثمّ إلى إستدعاء خدماتهم ـ كشرطة إقليمية !
للبحث صلة..
التعليقات