بثت إحدى القنوات الفضائية قبل أسبوع فيلماً بجزأين يمثل حياة البابا الراحل يوحنا بولص الثاني. وإن بدا الاستعجال في إخراج الفيلم واضحاً، لكنّه يمثل النقاط الرئيسية التي دمغت حياة البابا البولوني بخاصة أثناء خدمته على مدار 27 عاماً. ولستُ هنا بصدد الحديث عن البابا ولا تقديم نقد سينمائي للفيلم الذي حمل جزؤه الأول عنوان quot;الإنسان الذي أصبح باباquot;، والثاني :quot; البابا الذي بقي إنساناً quot;. لكنّي توقفت عند مشهد مؤثر تجدر إعادته اليوم، حيث يعيدُنا إلى عام 199. وفيه يُسِرُّ البابا في سيارته لأحد مساعديه قائلا : quot;إني حزين لأنّ مداخلاتي من أجل العراق لا تجد آذانا صاغيةquot;. وبالفعل كان هذا المشهد يختزل مداخلات عديدة قام بها فيما كانت الجيوش الثلاثينية تشد العتاد والرحال صوب الخليج العربي، لتبدأ حرب الخليج وما نجم عنها من إخراج العراق قسراً من الكويت ومن بقاء الجنود الغربية في أراضٍ عربيّة إلى أجل غير مسمّى.

وحده الفاتيكان من دول الغرب الذي كان يحذّر من شرعنة الحرب، محاولاً التأثير في الرأي العام كما في قرارات الحكام. لكنّ هؤلاء كانوا مصمّمين على الحرب من غير جدال، دون إعطاء المفاوضات نصيباً أوفر، فحدثت وأعقبت ما أعقبت من أعداد هائلة من القتلى ومن أعداد اللاجئين إلى دول الجوار، وما زال العديد منهم يقضون ساعات طويلة على أبواب سفارات العالم. وقد رأيت في إحدى المكتبات الفرنسية كتاباً جامعاً لكل مداخلات quot;الكرسي الرسوليquot; من أجل العراق جُمعت في كتاب لا يقل، بحسب ذاكرتي، عن مئتي صفحة، دلالة على غزارة المطالبة بالحلول السلمية وأفضليّتها على العسكرية.

ومن عام 1991 وصولاً إلى 2..3 وأمام الحرب الأمريكية والبريطانية على العراق لم يغب صوت البابا، فبعث بممثليه إلى كل من القيادتين العراقية والأمريكية. ولم تفلح دبلوماسيته، الأمر الذي جعل مبعوثه المطران بيو لاغي إلى أمريكا يخاطب الرئيس الأمريكي، قائلا: إذا كنت مصمّما على الحرب وغير مصغ إلى المحاولات الرامية لجعل لغة التفاوض أقوى، فاعمل على الأقل على أن quot;تخرج اسم الله تعالى من حربك هذهquot;. وحصلت الحرب وكان ما كان من نتائجها الوخيمة التي يُعاني منها العراق اليوم.

وقبل أيام، وفيما العالم يراقب عملية الإعدام البشعة بحق الرئيس العراقي السابق ظهر صوت الفاتيكان بكل وضوح وبشكل لم تقوَ أيّة حكومة على التصريح به لا عربياً ولا عالمياً: الإعدام مأساة. وكان الفاتيكان منذ لحظة إعلان الحكم قد شجبه أيضاً واعتبره امتهاناً لكرامة الإنسان، وهو الذي يعارض أصلا بتعاليمه عقوبة الإعدام ويدعو إلى إيجاد وسائل أخرى سلمية لردع الجناة والمجرمين الماثلين أمام القضاء.

الفاتيكان قوّة دينيّة وأخلاقيّة ليس رئيسها منزّها عن الخطأ في كل شيء ما عدا التعليم الأخلاقي والعقائدي بحلته الرسمية. لكنّه دائما يضع quot;الإنسان في قلب السلامquot; وهذا القول هو عنوان الرسالة بمناسبة يوم السلام العالمي في أول يوم من هذا العام الجديد.وهو ينظر إلى شؤون الدنيا ليس من باب المصالح بل من باب المصالحة. وليس من باب الاصطفاف مع هذا أو ذاك من تيارات المشهد السياسي في عالم ما زالت أطرافه المتعددة عرضة لعمليات الإرهاب والقتل وامتهان الكرامة الإنسانية للصغار والكبار، وبات الجوع فيه ينال قسماً كبيراً من أبناء الكوكب الأرضي الساعي بمن فيه من أصحاب نيات حسنة إلى الوفاق والمصالحات الوطنية وبين الدول والتوزيع العادل للثروات. ويبقى صوت الضمير الإنساني الحيّ مجلجلاً على ألسنة الجهات التي ما زالت ترى في الإنسان أساساً للتنمية البشرية وضرورة المحافظة على بيئة نظيفة وآمنة تحفظ للأجيال القادمة حقها في حياة مطمئنة.
في الحرب لا خاسر ولا غالب. الكل يخسر. هذا ما قاله الفاتيكان في حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، كما في الحرب على أفغانستان، وهو الذي صرّح بعد أحداث 11/9 السلام ينبغي أن يُبنى على العدالة وهذه بدورها على المسامحة. لا يجد هذا الصوت آذاناً صاغية. ولكنّ العواقب الوخيمة التي يحذّر منها تطال كل الأطراف التي اختارت النزاع المسلح طريقاً. وهذا ما يشهده العراق اليوم، ليس وحده في ذلك بل كل دولة تختار السلاح طريقاً لحل النزاع ينالها خسران كبير في المعدات والآليات وفوق ذلك في الإنسان، فهو الضحية الأولى لأيّ نزاع مسلح.


[email protected]
www.abouna.org