يستحق منا الأمر أن نخالف ما درجنا عليه من عدم العودة إلى تأكيد أو توضيح ما سبق أن تناولناه في مقال، ذلك أن ما تعرض له مقالنا quot;العسكرتاريا الرهبانية والكنيسة القبطيةquot; يحتاج إلى ما هو أكثر من مقال، فبالإضافة إلى حساسية الأمر لدى الأقباط الأرثوذكس، هو موضوع واسع ومتداخل عبر الزمان والمكان، ولاشك أن تناوله في عجالة يسبب الكثير من الخلط والاختلاط، وهو ما لسنا في حاجة إلى المزيد منه، في منطقتنا العامرة بالفوضى غير الخلاقة.
لا يرى كاتب هذه السطور لنفسه دوراً فيما يمكن تسميته quot;بالإصلاح الدينيquot; من منظور عقائدي يهدف لصلاح الإيمان، ضماناً للوصول إلى ملكوت السماوات أو الجنة، فقد يتصدى لهذه الرسالة المقدسة آخرون، ربما أكثر قدرة عليها، وبالتأكيد أكثر اهتماماً بما بعد هذه الحياة الدنيا، التي نذرنا أنفسنا بالكامل لها، سعياً لأن نجعل الأرض مكاناً أفضل، تعيش فيه أجيال الإنسان، لكننا مضطرون لأن نعنى بالإصلاح الديني من منظور تأثير الدين على ثقافة الإنسان ورؤيته للحياة وحقائقها المادية، ومن ثم تأثيره على الممارسات العملية للإنسان الشرقي عموماً والمصري بالأخص، فمن المفترض أن السير في الأرض بهدي تعاليم السماء يؤدي إلى تعمير الأرض وسعادة الإنسان وتفجير ملكاته الإبداعية التي خلقها فيه الإله، أما إذا أدى تطبيق فهم أو تفسير معين لهذه التعاليم إلى خراب الأرض وشقاء الإنسان وتخلفه، فإن هذا يعني أن المشكلة بين أمرين لا ثالث لهما، فإما أن تكون المشكلة في تعاليم السماء ذاتها، وهذا ما يستبعده ويرفضه (على الأقل) المؤمنون، وإما أن تكون المشكلة في فهم وتفسير تلك التعاليم وفي تطبيقاتها الأرضية، وهنا يكون الأمر مرتهناً بقابلية وقدرة رجال الدين على تصحيح مفاهيمهم وتفسيراتهم، إن لم يكن حرصاً منهم على ازدهار الحياة التي نحن منغمسون فيها، فعلى الأقل درءاً لجلب الاتهام لتعاليم السماء ذاتها من قبل غير المؤمنين، بل وقد يمتد ذلك الاتهام ليصدر من الجماهير المتضررة، وهنا تكون الردة التي لا يسعى إليها ولا يرحب بها أحد!!
من هنا كانت مقاربتنا لقضية تحكم الرهبان في توجيه وقيادة الكنيسة، وانفرادهم بها محاصرين العلمانيين والكهنة (المتزوجين والمنغمسين معنا في الحياة) في دور التابع المطيع، الذي لا يملك من أمره إلا هامشاً محدوداً بخطوط حمراء، تصعق من يتجاسر على تجاوزها، لكن لماذا بالأساس نتساءل عن حكم الكنيسة وتوجهاتها، وهو ما يبدو للبعض أمراً دينياً مسيحياً خاصاً، لا يليق التعرض له علانية، وفي هذه الأزمنة الصعبة بالتحديد، زمن تصاعد الهجمات المتعصبة المتأسلمة على الكنيسة وشعبها؟
الأمر ببساطة أن المنطقة (ومصر التي تعنينا بالأساس) تعاني من حالة تخلف اقتصادي واجتماعي وسياسي وصل إلى حافة الانفجار، ويرى البعض (ومنهم كاتب هذه السطور) أن الخروج من هذه الحالة لا يتأتى بالصراخ والعويل، ومطالبة الحاكم أن quot;يضرب الأرض تطلع بطيخquot;، كما لن يتأتى بمجرد تغيير الحكام ربما بمن هم أسوأ منهم، فالأمر في نظرنا (الليبراليون الجدد على الأقل) يحتاج إلى تغيير شامل للثقافة باتجاه الليبرالية والانفتاح على العالم، وإطلاق الحرية للإنسان الفرد، ليعمل ويبدع بلا قيود أو حجر أو وصاية، بما يترتب عليه تغيير النظم التي تحكم كافة مؤسسات المجتمع، وفي هذا السعي للتغيير الشامل لا يمكن استثناء مؤسسة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فهي ليست مجرد دار عبادة وكفى، لكنها مؤسسة مصرية عريقة، يتربى في حضنها ووفق خطابها الملايين من أبناء مصر، الذين يؤثرون ويتأثرون بباقي أخوة الوطن، ثم هناك أيضاً مشاكل الأقباط الطائفية الخاصة التي يعانون منها، ويصرخون ويتصايحون ليل نهار ونشاركهم صراخهم، لكن هذا الأمر أيضاً لا يتأتى بالصراخ والمطالبة وحدها، وإنما بأن يتقدم الأقباط كرجال ومواطنين أحرار، ليندمجوا ويشاركوا في الحراك المجتمعي الدائر في مصر الآن، ويضعوا أياديهم في أيدي إخوانهم في الوطن من المستنيرين، لصد طوفان الظلام والكراهية والعنف الزاحف على بلادنا، عن طريق جماعة الإخوان المحظورة، والتي هي الجماعة الأم والحاضنة لكل جماعات التطرف والإرهاب المحلية والعالمية.
السؤال هو: هل الأقباط مهيأون لأداء الدور الذي يتحتم عليهم أدائه، إنقاذاً لأنفسهم ولوطنهم؟
أقول (ومعي الكثيرون) لا، فهم أسرى أسوار الكنيسة المادية والفكرية، هم مرتعبون منكمشون سلبيون متواكلون خانعون ومنغلقون، هم عبيد لقيادات الكنيسة وأسرى خطابها الشمولي، الذي يعمق فيهم روح الخنوع والطاعة والاستسلام للمقادير بانتظار معجزات، وهذه الحالة المؤسفة يسأل عنها الجميع، وأول الجهات الدولة وتيارات التعصب، التي همشت الأقباط إلى ما يقترب من حدود الطرد من المجتمع، لكن الكنيسة أيضاً شعباً وقيادة مسئولة، فالتمييز ضد الأقباط لم ينجح مثلاً في طردهم من المجال الاقتصادي، الذي صالوا فيه وجالوا، لأنهم ببساطة كانوا مصرين على التواجد حفاظاً على لقمة العيش، وهذا ما يدينهم إذا ما تعللوا بالتمييز في غيابهم عن الساحة الاجتماعية والسياسية والرياضية والنقابية.
هنا يأتي دور الكنيسة في مراجعة نفسها: أمامنا الشعب الذي استمرأ خطاب الطاعة والخنوع والتوقف عن التفكير سعياً لاستفتاء الكهنة في أدق أمور الحياة الخاصة، الشعب الذي بالغ في الانعزال داخل الكنيسة جبناً من مواجهة الحياة في الخارج، كان عامل ضغط على قيادات الكنيسة للتوسع في أنشطتها، حتى صارت تشمل جميع مناحي الحياة، هو الشعب أيضاً الذي يلهث خلف المعجزات ويختلقها، عجزاً عن مواجهة الحياة بقوانينها الطبيعية كما خلقها الله، كأنما يهرب من هذه القوانين بكسرها بالمعجزات، التي تأتي له بالمن والسلوى والعلاج وهو جالس القرفصاء، أو وهو غافل في صحن الكنيسة يستمع لطقوسها الطويلة كيوم الأبدية.
أخيراً نأتي إلى أهم الأدوار وهو دور قيادات الكنيسة، فهم القابضون على زمام الأمور، سواء في التوجيه الفكري والعقيدي، أو في إدارة شئون الكنيسة وأنشطتها، التي امتدت أخيراً لإنشاء قرية سياحية في الساحل الشمالي بمساحة 8 أفدنة.
في معرض البحث عن الإصلاح في الكنيسة على مستوى القيادة عقدنا كمجموعة من أبناء الكنيسة العلمانيين لقاءنا الأول، تحت عنوان quot;رؤية علمانية للإشكاليات الكنسيةquot;، قدمت فيه رؤى لطرحها على الشعب القبطي وقياداته، لتكون نواة لنقاشات وحراك إيجابي، وامتداداً لهذا وانتظاراً للقاء العلمانيين الثاني عرضنا للبحث والمناقشة رؤية حول طبيعة ثقافة قادة الكنيسة باعتبارهم جميعاً من الرهبان، ولا يعني هذا بأي حال انتقاصاً من قيمة الرهبنة والرهبان، الذين نكن لهم كل تقدير واحترام، ومنهم قديسون ليست الأرض بمستحقة أن تحملهم، وليس آخرهم المتنيح أبونا متى المسكين، فبراري مصر تغص بأولاد الله القديسين، وإنما محل التساؤل هو مدى مناسبة الثقافة الرهبانية لقيادة الشعب القبطي في الفترة القادمة، والتي نرجو لها أن تكون عصر الليبرالية، التي تختلف جذرياً عن قوانين الرهبنة القبطية.
لقد شبهنا قيادة الرهبان للكنيسة بسيطرة العسكريين على حكم البلاد منذ يوليو 1952، وهناك الآن إجماع من أبناء مصر عسكريين ومدنيين، على وجوب إنهاء هذه المرحلة، ليقتصر دور العسكريين على حماية البلاد، ويتقبل العسكريون ذلك دون اعتباره من قبيل الاحتقار أو التقليل من شأنهم، فكل منا يجب أن يقتصر دوره على ما تخصص فيه ونذر نفسه له، وهناك في الكنيسة المتبتلون والكهنة (المتزوجون) الذين نذروا أنفسهم لخدمة الناس والكنيسة في هذا العالم، وهم الأقرب لاكتساب الخبرات والثقافة المناسبة لإدارة شئون الكنيسة، فالإشكالية الجديرة بالانتباه هي قضية اختلاط القيم وتداخلها ومن ثم تعارضها، فلكل دائرة نشاط إنسانية قيمها الخاصة والمناسبة لطبيعتها، علاوة على القيم العامة التي تجمع أبناء الوطن بل والإنسانية ككل، وهناك دوائر كبرى تجمع دوائر أصغر، كدائرة الحياة المدنية، والتي تختلف جذرياً عن الدائرة العسكرية ودائرة الرهبنة، فالرهبنة تحتاج مثلاً إلى الرأي الواحد والقيادة الواحدة القوية لضبط إيقاع الحياة في الصحراء، كذا توحيد الفكر من الأمور التي قد تكون ذات مردود إيجابي، أما في الحياة المدنية والسياسية، فقد أدى بنا مثل هذا الفكر خلال النصف قرن الماضي إلى ما يقترب من توصيف كارثة.
تقوم الرهبنة على التعبد أناء الليل وأطراف النهار، فتحتاج إلى طقوس فخمة وطويلة ولا بأس أن تكون صعبة ومعقدة، أما في حياتنا المدنية، وبعد تقلص العمل الزراعي ونظام ري الحياض، الذي كان يبقي الفلاحين بلا عمل جزءاً كبيراً من العام، وانتقالنا إلى عصر الصناعة، فالأمر يقتضي طقوساً أقصر وأبسط، يترافق معها زيادة تركيز المصلي في الصلوات، وعمق تأملاته الروحية، وهو الأمر الذي يتضاءل حتماً بطول الطقوس.
تفرض الرهبنة قيم الزهد والتقشف في الحياة والتطلع للحياة الآخرة، وهي القيم السائدة فعلاً في خطاب الكنيسة بقيادة الرهبان، رغم أن الممارسات العملية في الاتجاه المضاد تماماً، سواء من الشعب أم الكهنة أم كبار القيادات، رغم أنه بالنسبة للأخيرين يبدو الأمر متناقضاً وربما مثيراً للدهشة والاستهجان، وهذا الوضع يخلق نوعاً من إدمان النفاق وازدواجية الفكر والممارسة، وهو الأمر المدمر نفسياً وثقافياً.
ثقافة انعزال الراهب داخل صومعته وديره تنعكس على خطاب الكنيسة وممارسات الشعب، في الانعزال عن العمل العام، والتخندق داخل الكنيسة، وهو ما يفقد الأقباط مواقعهم داخل الوطن، ويحرم الوطن من مجهودات قطاع عريض من أبنائه، خاصة في المجالات الاجتماعية والسياسية والنقابية.
كتب الرهبنة التي تطبع وتباع بالكنائس، وتصور حياة الرهبنة كجنة أرضية، وتصف الرهبان بأنهم ملائكة أرضيون أو بشر سمائيون، والرحلات المستديمة التي تقوم بها الكنائس للأديرة طوال العام، كل هذا يرسخ في أذهان الشباب والناس نموذجية حياة الرهبنة والتوحد والانعزال بالصحراء.
يبقى في النهاية ملاحظتان، أولهما أن قصة مصرع الفيلسوفة المصرية هيباشيا متواترة في كتب التاريخ، لكن لا يوجد إجماع على تفاصيلها، وطبيعة الجريمة وزمان حدوثها يجعلها تفتقد للوثائق الدامغة التي ينشدها البعض، لكنها قد حدثت بخطوطها العامة، وليس عيباً وإنما فضيلة أن نتعرف على تاريخنا، لنستخلص منه العبر، وذلك حتى لا يعيد التاريخ نفسه، فالأمم التي تعيد إنتاج نفسها بصورة أو بأخرى محكوم عليها بالفشل ثم التخلف ثم الاضمحلال.
النقطة الثانية هي أن طرحنا هذا لا نقدمه بوصفه حلاً جاهزاً أو حقيقة مطلقة نبشر بها ونروج لها، فهذا النهج الوعظي هو أهم ما نعاديه، لأنه وليد ثقافة الشمولية وأحادية الفكر، فنحن ندعو لمنهج النقاش الموضوعي العلمي الهادئ، والذي يبدأ دائماً بتحديد هدف، ثم التقدم بعدة مقترحات لتحقيقه، يدور حولها النقاش والتقييم، وقد يثبت فساد بعضها، فيما نجد للبعض الآخر مزايا وعيوباً، عندها نستطيع التحليل والمقارنة واختيار أفضل البدائل، حيث الأفضل هو الأكثر مزايا والأقل مساوئ، أما الخير المطلق والشر المطلق فلا وجود لها إلا في أذهان الحالمين والواهمين، بهذا النهج فقط وبالتحديد يمكن أن نجد حلولاً لمشاكلنا، التي تراكمت عبر عشرات القرون.
تحياتي
[email protected]