بين جريمة السلطة وتضليل المعارضة المذهبية
في العراق الآن حوالي 150 عائلة سورية مهددة بحياتها نتيجة الفوضى والعنف الطائفي ـ السياسي اللذين يجتاحان هذا البلد منذ أكثر من ثلاث سنوات. ويقدر عدد هؤلاء، دون إمكانية الحديث عن أرقام دقيقة، ما بين 600 إلى 800 مواطن قسم كبير منهم من النساء والأطفال والأحداث.
تعود مشكلة هؤلاء في معظمها إلى أيام quot; المحنة الوطنية quot; نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات الماضية، عندما فر آلاف السوريين، ومنهم عدد من العسكريين، إلى العراق وبلدان أخرى هربا من الاعتقال على خلفية الصدام المسلح بين أصوليي النظام وأصوليي الإخوان المسلمين. والبعض من هؤلاء، ولعلهم الغالبية، هم من البعثيين الذين تعود جذور مشكلتهم إلى زمن الانشقاق الأول في quot; البعثquot; أواسط الستينيات الماضية واندلاع المواجهة السياسية بين جناحيه في البلدين، قبل أن يتحول إلى صراع دموي، عبر تبادل السيارات المفخخة وفرق الاغتيال، إثر استيلاء صدام حسين على السلطة وإنهائه quot; مشروع ميثاق العمل القومي quot; في العام 1979 وتصفية 30 من رفاقه أعضاء القيادة، في تلك المجزرة الدموية المروعة التي اقترفها بعد أربعة أيام من انقلابه، بتهمة التآمر مع النظام السوري، والتي شاهدها الناس في بث حي كما لو أنها شريط سينمائي من أشرطة هيتشكوك !
من بين هؤلاء يجب أن نميز أيضا بين الجيل الأول من الفارين بأرواحهم، والجيل الثاني الذي يشكله أبناؤهم. وربما هناك جيل ثالث من الأحفاد لم يسمعوا أصلا بـ quot; البعثquot;، ولم يعرفوا شخصا اسمه صدام حسين قبل إعدامه، ناهيك عن معرفتهم بغريم له على الضفة الأخرى من الحدود يدعى حافظ الأسد ! وسط الجيل الأول ينبغي أن نميز أيضا بين الأشخاص الذين انخرطوا في الصراع وكانوا من أدواته السياسية أو الدموية، وهم القلة، وبين نسائهم وأبنائهم الذي يشكلون الغالبية، والذين وجدوا أنفسهم وسط المعمعة عاجزين عن فعل أي شيء.. ربما سوى لعن الساعة التي ولدوا فيها عربا في quot; أمة عربية واحدة quot; لم تستطع أن تقبلهم إلا كلاجئين أو مرتزقة أو مخبرين لأجهزتها quot; ذات الرسالة الخالدة quot;!
وإذا كان الحديث يدور الآن حول سوريين بالمئات في العراق، فإن الحديث يتعلق بعشرات ألوف العراقيين في سوريا حتى قبل سقوط النظام العراقي، ناهيك عن مئات الألوف من الذين quot; لجأواquot; إلى المقابر الجماعية ! ( نهاية الثمانينيات كان في دمشق وحدها حوالي 75 ألف مواطن عراقي هارب من بطش صدام حسين : بعثيين وشيوعيين ورجال دين ومثقفين مستقلين... إلخ ).
في العراق، كما في سوريا وإن بدرجة أقل كما ونوعا، لجأ النظام العراقي إلى استخدام quot; ضيوفه quot; من اللاجئين السوريين للقيام بمهمات رخيصة وحقيرة. وفي حالات ليست قليلة ( كما في النصف الأول من الثمانينيات وحتى مجزرة الباصات في العام 1986 ) لغايات إجرامية. ومن أجل القيام بذلك على أكمل وجه، أحدث النظام العراقي في قيادة حزبه القطرية مكتبا يدعى quot; المكتب السوريquot; وأسند مسؤوليته إلى نزار حمدون. و فعل النظام السوري الشيء نفسه، حيث تولى العراقي أحمد العزاوي، ثم فوزي الراوي بعد اغتيال الأول، رئاسة quot;مكتب شؤون العراقquot;، وإن بشكل صوري. ذلك لأن المسؤولية الفعلية كانت تعود إلى جهاز المخابرات العسكرية في معظم الحالات ذات الصلة، وبشكل خاص quot; فرع الجزيرة quot; في القامشلي تحت إمرة الجنرال محمد منصورة قبل أن يصبح رئيسا للشعبة السياسية في وزارة الداخلية.
أحدث المكتبان، من الناحية الشكلية المعلنة على الأقل، لمساعدة اللاجئين الوافدين من بلد quot; العدو البعثي quot; الآخر، وتسوية أمور إقامتهم ودراسة أبنائهم، ومتابعة كل ما يتصل بأمور معيشتهم كما يليق بأي مؤسسة لشؤون اللاجئين أن تفعل. لكن الواقع على الأرض كان مختلفا كليا. فالمكتبان لم يكونا سوى quot; واجهة إنسانية quot; لممارسات وحشية وبربرية. كانا جهازي مخابرات بالمعنى الحقيقي والقذر للكلمة، لا بمعناها المجازي ؛ مهمة كل منهما التجسس على الطرف الآخر وتجنيد الفارين من دياره كمخبرين عبر ابتزازهم بلقمة العيش والملجأ الآمن.. قبل تحويل قسم كبير منهم إلى قتلة مأجورين. ويقتضي الإنصاف القول إن النظام العراقي برع أيما براعة في ذلك، ولم يستطع النظام السوري أن يجاريه فيما ذهب إليه إلا نادرا جدا في هذا المجال !
جند نزار حمدون من خلال quot;المكتب السوريquot; مئات السوريين، بعثيين quot;قوميينquot; وإسلاميين، وأرسلهم إلى سوريا لممارسة الاغتيال السياسي والذبح على الهوية ووضع السيارات المفخخة في الأماكن العامة التي كان quot; آخرها quot; حادثة الباصات الشهيرة التي نسفت على طريق دمشق ـ حمص في العام 1986 وأسفرت عن مجزرة مروعة في صفوف الأبرياء. كانت المجزرة نوعا من quot; عقاب جماعي quot; أنزله صدام حسين بالشعب السوري ردا على رفض الأسد الأب إدانة احتلال إيران جزيرة الفاو في حديثه لإحدى الصحف الأميركية، والتي كانت أول انعطاف لصالح طهران في الحرب التي شنها صدام حسين بأوامر السعودية ومصر وواشنطن تحت شعار منع طهران من quot;تصدير الثورةquot; إلى العالم العربي !
لم تقتصر ممارسات quot;المكتب السوريquot; على تجنيد البعثيين quot;الصداميينquot;، بل طالت quot;الإخوان المسلمينquot; أيضا، وبشكل خاص تيار المراقب العام السابق عدنان سعد الدين المعروف بنزعته الدموية الإستئصالية المتطرفة، و quot; الطليعة الإسلامية المقاتلة quot; التي يمكن تسميتها دون تردد بـ quot; سرايا دفاع quot; الإخوان المسلمين ! ومن هؤلاء وأولئك، فضلا عن بعض المستقلين، ركّب نزار حمدون ما عرف آنذاك بـجبهة quot; التحالف الوطني لإنقاذ سورية quot; التي أخذت على عاتقها quot; تنفيذ سياسة صدام حسين الثأرية تجاه حافظ الأسد quot;، على حد تعبير الزعيم الوطني أكرم الحوراني الذي كانت سياسة حمدون و quot;جبهتهquot; سببا في مغادرته العراق نهائيا إلى فرنسا، وفي قطيعته النهائية مع النظام العراقي. وكان من اللافت أن مكتب نزار حمدون لم يكتف بتجنيد السوريين quot; اللاجئين quot; للعمل ضد النظام السوري فقط، بل وصل به الأمر إلى حد تجنيد قسم كبير منهم كمخبرين ضد المواطنين العراقيين أنفسهم ! وهو ما كان يحصل في سوريا أيضا على أيدي المخابرات السورية فيما يخص اللاجئين العراقيين هنا، وإن بدرجة أقل.
أدى انهيار الوضع الاقتصادي في العراق إثر حرب الثماني سنوات مع إيران، وبسبب الحصار الإقتصادي quot;الأمميquot; الذي أعقب غزو الكويت، إلى مغادرة القسم الأكبر من السوريين إلى دول عربية أخرى ( خصوصا الأردن والسعودية واليمن ودول الخليج )، فضلا عن المنافي الأوربية. ولم يبق إلا القلة التي لم يمكنها وضعها الاقتصادي من الفرار، وبعض القيادات البعثية والإسلامية التي استمر النظام العراقي في تزويدها بحد معين من الدعم المادي الذي يوفر لها حدا أدنى من مستوى العيش اللائق، كحالة الرئيس الأسبق أمين الحافظ والقيادي البعثي شبلي العيسمي.
مع سقوط بغداد والعراق تحت الاحتلال عادت قصة المواطنين السوريين في العراق إلى الواجهة ؛ فقد لجأ بعض العراقيين، وأحيانا قوات الاحتلال الأميركي بالذات، إلى ممارسة سياسة ثأرية انتقامية منهم بذريعة أنهم quot; كانوا يعملون جواسيس لصدام حسين quot;، رغم أن هذا ليس بعيدا عن الحقيقة كثيرا، على الاٌقل فيما يخص بعض المرتزقة منهم ! وأدى هذا الوضع إلى فرار عشرات الأسر، وفي مقدمتهم أمين الحافظ والعيسمي اللذان تجاوزا الثمانين من العمر، إلى منطقة الحدود السورية ـ العراقية في محاولة يائسة منهم للعودة إلى بلادهم. لكن النظام، ورغم وجود عشرات النساء والأطفال بينهم، رفض السماح لهم بالدخول إلى وطنهم ولو إلى... السجن ! وبعد أيام طويلة من المعناة والمكوث في الخيام، لجأ النظام إلى ممارسة سياسة انتقائية إزاءهم شبيهة بتلك التي تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين الذين يخرجون من الضفة الغربية وقطاع غزة ويحاولون الرجوع مرة أخرى ! فقد سمح بدخول البعض، كالرئيس الحافظ الذي خصصت له السلطة منزلا في حلب وراتبا ( وهذا حقه كرئيس سابق)، ورفض السماح للبعض الآخر الذي عاد أدراجه إلى بغداد ليموت هناك لاحقا على أيدي الميلشيات الطائفية، أو ليجد طريقه إلى دولة أخرى ينضم فيها إلى الدياسبورا السورية التي تعيش منذ عشرات السنين مصيرا لا شبيه له إلا مصير اليهود بعد السبي البابلي ! وكانت ذروة مأساة هؤلاء في كانون الأول / ديسمبر الماضي حين اختطف منهم ثمانية رجال إلى مكان مجهول سرعان ما لاقوا حتفهم فيه بشكل مأسوي، وفي مقدمتهم الملازم الأول الطيار أحمد عبد القادر ترمانيني الذي كان فر بطائرته إلى العراق في العام 1976.
لم يكن تعامل بعض قوى المعارضة السورية، لاسيما المذهبية منها، أقل دناءة وخسة من تعامل النظام مع هذه القضية الإنسانية بامتياز. ففي الوقت الذي quot; طنش quot; النظام عن مأساتهم، لاسيما النساء والأطفال منهم، وتنكر لحقهم المقدس في العودة إلى وطنهم، واعتقل العشرات ممن سمح لهم بالدخول ( حيث اختفت آثار معظهم)، لجأ بعض قوى المعارضة المذهبية إلى تصوير هؤلاء، وتحديدا السياسيين منهم، كما لو أنهم مجموعة من المناضلين والقديسين الأطهار، بل وإلى فبركة أكاذيب واختراع تاريخ نضالي لبعضهم كما في حالة الطيار السوري الملازم الأول أحمد ترمانيني الذي فر بطائرته إلى العراق بعد انكشاف علاقته بتنظيم عسكري سري تابع لـ quot; بعث العراق quot;، وليس بسبب رفضه المزعوم قصف مخيم quot; تل الزعترquot; كما يروج له الآن. وقد ساهم مطلع الثمانينيات، بالتعاون مع المخابرات العراقية، في تدريب الإرهابيين وإرسالهم إلى سوريا لتنفيذ عمليات الاغتيال السياسي وقتل عابري السبيل في الشوارع بواسطة السيارات المفخخة (*)!
إذا وضعنا النساء والأطفال جانبا، وقلة شريفة من الرجال لاسيما الجيل الثاني، ينبغي القول دون أدنى تردد، وبلا أي مجاملة، إن قسما كبيرا من هؤلاء، لاسيما في أوساط الجيل الأول من الفارين، كانوا أدوات إجرامية رخيصة في أيدي المخابرات العراقية، سواء ضد المواطنين السوريين الأبرياء أو العراقيين الذي استضافوهم في بلادهم لسنوات طويلة. وبعضهم لا يستحق أقل من صفة quot; قاتل quot; بالمعنى الحرفي ـ الجنائي للكلمة ! لكن حتى القاتل له حق مقدس في يكون له وطن، وفي أن يعود إليه ساعة يشاء. وإذا كان ثمة من تهمة موجهة له، فيجب أن توجه له أمام قضاء عادل وشفاف يضمن له إمكانية الدفاع عن نفسه، بل والحصول على الأسباب المخخفة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ظروف البلاد سنوات المحنة والمطاردة والفرار.
لقد ذهب صدام حسين ونظامه وأصبحا في ذمة التاريخ ؛ ولن تعمل سياسة النظام السوري في الانتقام من مشايعيه إلا على إعادة إنتاج روحه سوريـّاً، خصوصا في الوقت التي تنصب سرادق العزاء به في أحياء دمشق، وأكثر من مدينة سورية أخرى، تحت سمع وبصر المخابرات السورية وموافقتها المسبقة !
(بروكسل)
(*) ـ لمطالعة تحقيق مصور وموثق حول حول العسكريين السوريين الوحيدين اللذين رفضا قصف المخيم المذكور بتوجيهات من القائد الشيوعي رياض الترك، يمكن العودة إلى الرابط التالي :
التعليقات