مع تنفيذ حكم الإعدام برئيس المخابرات العراقية الأسبق برزان إبراهيم حسن التكريتي يسدل الستار النهائي على واحد من أبرز رجال المنظمة السرية لحزب البعث العراقي الذي ساد ثم باد بعد أن ملأ الدنيا و شغل الناس في العراق و المنطقة ردحا طويلا من الزمن العراقي و العربي المستباح، و برزان ليس مجرد الأخ غير الشقيق لنظام صدام حسين بقدر ما هو أحد الذين ساهموا مساهمة فاعلة في تثبيت نظام حزب البعث في العراق منذ بواكير أيامه و كان واحدا من ركاب (الوانيت أو البيك آب الأمريكي) الذي إقتحم قصر الرئيس السابق عبد الرحمن عارف الجمهوري في ذلك الصيف التموزي القائض من عام 1968 ليقيموا نظام الحزب الأوحد ثم العشيرة الواحدة و الرجل الأوحد وعلى النمط النازي العربي البدائي العشائري المتخلف قبل أن تعصف الرياح الأمريكية بالنظام الذي أراد أصحابه أن لا يسلم الراية إلا للمسيح المنتظر! بعد أن تحو لشركة عائلية مقفلة كان برزان التكريتي واحدا من أهم صناعه و المدافعين عنه في ظل و حماية أخيه الرئيس !، و لم يكن غريبا أن يودع برزان الحياة بعد أخيه بأيام قلائل فقد إرتبط وحوده و مصيره بمصير أخيه إرتباطا عضويا و صميميا و كانت نهاية أخيه العاصفة أيذانا بنهايته و نهاية النظام العائلي ذاته في واحدة من اشهد مشاهد التاريخ سخرية و لوعة ورغم ان برزان كان قد أبعد عن السلطة المباشرة منذ سنوات و تحديدا منذ أواخر عام 1983 بعد أن أقيل من منصبه المخابراتي الحساس على خلفية صراعات عائلية حادة كان طرفها المباشر الصهر الذي كان (حسين كامل المجيد) الذي نجح في التسلل لقلب العائلة الحاكمة و الزواج من كريمة صدام (رغد) رغم معارضة الأعمام (برزان وأشقائه وطبان و سبعاوي) بعد أن حسم صدام أمره وقرر تحدي العائلة و الإتيان بحسين كامل ليكون الرجل الجديد و قطب الرحى في الأسرة وهي المهمة التي أداها لسنوات قبل أن تعصف بنظام العراق متغيرات الستراتيجية الكونية وتهشم حتى الولاء العائلي لينشق الصهر مؤقتا قبل أن يعود نادما بعد شهور قليلة ليذبح بسكاكين العشيرة الذهبية و لتطبق بحقه و شقيقه قوانين ( مافيا العائلة ) و ليتشفى بهم برزان التكريتي من منفاه المخملي في جنيف ليقول قولته الشهيرة: ( إن حسين كامل و أشباهه هم سبب دمار العراق )!!! و هي عبارة ناقصة المعنى و المبنى و لكنها معبرة عما يختلج في النفوس و يدور في الأفئدة، فبرزان الذي عرف شهوة الحكم و التسلط منذ فجر شبابه لم يكن ليقبل أن يداس عليه بكل تلك السهولة! و لكنها تقلبات الأيام التي أوصلت الشقاة و العاطلين لقمة الهرم السلطوي في العراق ثم تكفلت رياح التاريخ العاصفة بتعرية و تشذيب ذلك الواقع، و برزان التكريتي تعبير عن متلازمة العشيرة و العائلة و الولاء الأسري في سلطات و حكومات المجتمعات المتخلفة، و كان دوره حاسما كظل لأخيه في تسيير الأمور و الصراعات السياسية المعتمدة على الغدر و تجييرها لصالح شقيقه الذي كان يخطط بصبر و تؤدة ليكون الرجل الأوحد في العراق وهو ما حصل لاحقا، فقد كان برزان أحد القلة الذين أبعدوا رئيس الوزراء الأسبق عبد الرزاق النايف عن السلطة في 30 تموز/ يوليو 1968 وحيث أبعد في حركة شقاوة و غدر معروفة لمنفاه المغربي ثم اللندني قبل أن يقتله عملاء جهاز برزان المخابراتي عام 1978 في قلب العاصمة البريطانية لندن!!، و برزان الذي ساهم في إقامة مكتب العلاقات العامة (المخابرات) كان قد لعب أخطر الأدوار الأمنية و أشدها حساسية في حماية نظام الحزب و العشيرة وكان يد صدام الضاربة في تشييد و تحصين نظام صدام حسين وقد برز بكل قوة بعد إنقلاب صدام على الرئيس السابق العجوز أحمد حسن البكر وعلى حزب البعث ذاته أو بقاياه في 16 تموز/ يوليو 1979 و ساهم مساهمة مباشرة في إعتقال و تعذيب و إعدام العشرات من الكادر الحزبي المتقدم في حدائق القصر الجمهوري حتى قيل أنه قد جاء بولده الصغير وقتذاك ( محمد ) ليطلق النار على جثث أعضاء القيادة القطرية و القومية من المغضوب عليهم ليتعلم قساوة القلب و ليتم تهيئته لدروب السلطة المستقبلية في العراق!!، و كان برزان يفخر على الدوام بأنه الدرع الحصين لنظام العائلة حتى أنه ألف عام 1981 كتابا حول ( محاولات إغتيال صدام ) وأجبر العراقيون على شراء ذلك الكتاب الذي كان يضم الروايات حول المحاولات التي كانت تستهدف حياة و سلطة صدام حسين !!، كما لعب برزان دورا فاعلا في المواجهة مع الحركات الإسلامية و كل حركات المعارضة وكان دوره مشهودا في إعدام آية الله الراحل محمد باقر الصدر و شقيقته بنت الهدى في إبريل/ نيسان 1980، كما قام بتنفيذ آلاف حالات الإعدام ضد المعارضين و لعب دورا مؤسسيا و فاعلا في حملات التهجير الكبرى التي تمت في العراق إعتبارا من عام 1980 وكانت يد جهازه الأمني ( المخابرات ) طويلة للغاية في المحيط المجاور للعراق وحيث مارس أدورا إرهابية و إغتيالات واسعة في الكويت ودول الخليج وفي تأجيج الصراع الطائفي في سوريا من خلال دعم الإخوان المسلمين هناك في صراعهم الدموي العنيف ضد نظام دمشق عام 1980 !و كان دور برزان متميزا للغاية في تلك المرحلة الصعبة و الحساسة رغم فشله و فشل جهازه الأمني في حماية المفاعل النووي العراقي أو العلماء الذين كانوا يعملون به كالمصري بحيى المشد الذي أغتيل بسهوله في باريس على يد الموساد رغم أن محطة باريس من المحطات الفاعلة للمخابرات العراقية و التي كان يتفاخر برزان التكريتي بأنها المخابرات التي جعلت المعارضين العراقيين في الخارج يخافون حتى من الهواء!!، ثم جاءت الضربة الموجعة بعد تدمير المفاعل العراقي بالطيران الإسرائيلي في حزيران 1981 و التي هي في حقيقتها ضربة أكبر بكثير من إمكانيات المخابرات العراقية المتخصصة في القتل و المطاردة و الخطف لا في حماية المنشآت لأن تلك المهمة أكبر منها ومن رجالها بكثير، لقد كانت مهمة المخابرات العراقية السابقة ليس الأمن الوطني و القومي بل حماية نظام العائلة و الأسرة بكل الطرق العنيفة وعن طريق مساعدات لوجستية من المحيط المجاور ! و لاقوة حقيقية لها إلا من خلال عمليات البلطجة و الشقاوات التي تم تأطيرها ضمن أسس مؤسساتية! وبرزان في ذلك كان إبنا بارا للمؤسسة القمعية ولدولة المنظمة السرية ذات الأبعاد المافيوزية، وبعد أن أزيح برزان عن عرشه المخابراتي أواخر عام 1983 تقلص و إنكمش دوره حتى تصالح مع أخيه ثانية ليكون هذه المرة سفيرا للعراق في المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف!! وهنالك حاول تغيير جلده و الدخول لطبقة الدبلوماسيين المخملية!! وحاول أن يطور نفسه ليكون مفكرا و دبلوماسيا ورجل فكر و حوار!! وهي المهمة الغريبة عليه وعلى مؤهلاته الشخصية، ونشط في تعلم الإنجليزية التي كان يردد مفرداتها حتى وهو في قفص المحكمة الأخيرة، كما ربط خيوط إتصال مع عدد من الأنظمة العربية وكان من المترددين الدائمين على المغرب و أقام علاقات وثيقة مع القصر الملكي هناك زمن الحسن الثاني، كما ربط علاقات خفية مع بعض المعارضين العراقيين ومنهم أسماء معروفة خلال وجوده في جنيف، و أشيع الكثير عن كونه الرجل الذي يمتلك مفاتيح و أسرار مليارات عراقية نجح النظام السابق في تهريبها وإستثمارها في الخارج من خلال واجهات لرجال أعمال عراقيين وعرب ولكن لم ينشر الكثير عن ذلك الملف الحساس و لا تعرف عن مفرداته إلا القليل من الحكايات الشبيهة بالألغاز و لربما تبخرت تلك المليارات كما تبخرت الأموال التي هربها الشاه الإيراني الراحل أو الأموال التي حملها معه الدكتاتور الزائيري الأسبق ( موبوتو )..! إنها أسرار مغلقة لثروات شعوب منكوبة بحكامها من الطغاة و اللصوص المحترفين!!!.

و الطريف أن برزان بعد غزو الكويت حاول من طرف خفي أن يطرح نفسه كبديل لشقيقه و كحل لأزمة النظام البنيوية و المصيرية و أصدر من أجل ذلك دراسة بائسة أطلق عليها عنوان ( من أجل مستقبل عربي أفضل )!!! إستعرض فيها تاريخ المنطقة القريب ومتوقعا سلسلة من المتغيرات المستقبلية ليس من بينها سقوط نظام العائلة؟ بل توقع إختفاء الدول الخليجية الصغيرة!! و الصلح مع إسرائيل وهيمنة الكيانات الكبرى على الصغرى!! وهي في حقيقتها هلوسة سياسية قبل أن تكون دراسة أكاديمية رصينة !! وهو منذ أن عاد للعراق بعد وفاة زوجته في جنيف ودفنها هناك كان بعيدا عن ممارسة السلطة المباشرة حتى جاءت حرب ( الحواسم ) لتحسم مصير كل الرفاق الذين ساهموا في إنشاء و تعبيد دولة البعث بنسختها الصدامية و التي غربت شمسها و تبخر قادتها في غياهب التاريخ ليكون برزان التكريتي واحدا من رموز كثيرة سابقة و لاحقة ممن دفعوا ثمن الصراع السلطوي فاللحكم شهوة وسلطة و لكنها لا تخلو من اللعنات وسوء المنقلب... وبإعدام برزان يسدل فصل آخر من فصول التراجيديا العراقية المستمرة فصولا...

[email protected]