سلسلة من quot; الإعدامات quot; طالت الطفولة، هنا وهناك من بقاع العالم، أعقبت شنق الطاغية العراقيّ. أطفالٌ بعمر البراءة، شاءَ الواحدُ منهم تقليد ذلك المشهد، الكابوسيّ، لعملية الإعدام والذي عرضته شاشات التلفزة في بلده، فدفع هكذا حياته الغضة ثمناً للعبة الموت تلك. الأخبار المتعاقبة، والمتوافقة مع سلسلة الطفولة، القاتلة، تناقلتها وسائل الإعلام في أنحاء المعمورة، مرفقة بمشاعر الغضب والسخط. إلا عندنا، في الدول العربية، حيث تمّ عموماً تجاهل هذا الظاهرة، شديدة الخطورة حقاً، من لدن الفضائيات المتباكية على quot; التوقيت الإجرامي quot; لإعدام المجرم التكريتي. أو بأحسن الأحوال (أسوأها في الواقع !)، ما راحتْ به الفضائية الخليجية إياها، للصمود والممانعة والمقاومة، من إعادة quot; مونتاج quot; الخبر نفسه، للزعم بأنّ : quot; طفلاً في صنعاء قد شنق نفسه حزناً على صدّام حسين quot;، بغية تسويق هذا الأخير، ضمن الحملة نفسها، كما لو أنه quot; سيّد شهداء العصر quot; ـ كذا. لم يتنازل كبارنا، في وسائل الإعلام العربية المختلفة، إلى مستوى صغار الأطفال أولئك، الضحايا، بغية تحليل تلك الظاهرة، الموسومة، خصوصاً في القنوات التلفزيونية، الرصينة، التي لا تكل ولا تملّ من عرض تحقيقات وندوات عن ظواهر مختلفة في عالمنا، بعضها أضحى ينتمي لعالم المنقرضات لا الموجودات.
كان من الملاحظ، فيما يخصّ ذلك الخبر ذاته، أنّ حكايات شنق الأطفال، الشنيعة، كان مكانها هناك في دول العالم الثالث، النامية تخلفاً وأمية ً وأمراضاً وأوبئة ً وحروباً ! لم نسمع عن طفل غربيّ واحد (أوروبيّ أو أمريكيّ أو أستراليّ..)، أنه قامَ بتمثيل واقعة إعدام طاغيتنا، مقلداً إياهاً حتى الموت الزؤام : والسبب، مؤكداً، يعود إلى أنّ مجتمع ذلك الغرب، الراقي، يفرض قيوداً صارمة على وسائل الإعلام، وخصوصاً المرئية، فيما يتعلق بالصور المسموح عرضها للعموم. أما لدينا هنا في المشرق، المؤمن بالآلهة البشرية وأنصافها وأرباعها، أكثر من إيمانه بالرب الواحد الأحد، فلا رقابة واعية، مقتدرة، ولا تحزنون. فرقابتنا الحصيفة، مشغولة بتمحيص الأخبار من كل ما يمسّ ظل الله على أرضه..، بغربلة المسلسلات (إجتماعية كانت أم تاريخية) من أيّ فكرة حداثوية، لكي تبقى في quot; حدود الشرع quot; ـ لكي تزداد وخامة ً على سقامة ! الطفولة البريئة إذاً، هي آخر ما يشغل أهل الإعلام والفنّ عندنا، ما دامت أولوياتهم منصبة على أشياء اخرى، غير بريئة. معدومو الضمير، من المستصرخين الضمائر على إعدام صدّام، همُ في الواقع من أدارَ quot; فيلم quot; شنقه على مدار الساعة الفضائية، دونما أن يكلفوا خاطرهم حثّ الأهل، ولو بجملة واحدة مبتسرة، على التنبه لمخاطر هذا البث على أطفالهم. لا بل وأجزمُ، خالصَ الضمير، أنه كان في ذهن أهل الفضائيات تلك (والخليجية أكثر من الجميع) أن يكون ذلك البث متصلاً بوعي مشاهديها كباراً وصغاراً، بهدف التحريض وإثارة الفتنة : فأيّ خطاب لهذا الإعلام المسموم نفسه، غيرَ خطاب التكفير والتخوين وبعث الأحقاد الدينية والمذهبية والعرقية.. ؟
المناحة العربية على إعدام طاغية العصر، والتي تآلف في معقدها اليساريّ باليمينيّ والعلمانيّ بالإيمانيّ، كشفتْ مستوى النخب الثقافية والفكرية عندنا، المزري غالباً، فما بالك بالدهماء والغوغاء : لا غروَ والحالة هكذا، أن يكون ردّ فعل تلك النخب على quot; فيلم quot; الإعدام، المثير للزوابع والعواصف، قابله صمتٌ مطبق فيما يتعلق بسلسلة quot; إعدامات quot; الأطفال، من ضحايا مشهد الفيلم الصدّامي، الذي أثرناه آنفاً. يقيناً، أنّ المرءَ quot; يتفهّم quot; دواعي ذلك الصمت، تجاه حوادث فردية هنا وهناك، كما في موضوع ضحايا الطفولة أولئك، ما دام مئات الألوف من المدنيين العراقيين، وجلهم من الأولاد والنساء والشيوخ، قد توالى على مرّ الأعوام المريرة، الطويلة، تقديمهم قرابين أمام صنم الطاغية نفسه، مصحوبين لا بصمت تلك النخب المثقفة وحسب، بل وأيضاً بتهليلها ومباركتها عبْرَ مهرجانات الشعر في quot; المربد quot; وغيره ! فذكرى ضحايا الطاغية هؤلاء، قد تمّ محوها بيسر وسهولة، من قبل مثقفينا، وبجرة من قلمهم quot; الرصاص quot; تقول : عملية الإعدام مرفوضة، من قبلنا، شكلاً وفعلاً، ولدواعي حقوق الإنسان ! هذه الجملة، المنافقة، تصدرتْ يافطات الأحزاب والكتّاب والنقابات والصحف بين المحيط والخليج ؛ وخصوصاً في الأردن وفلسطين واليمن ومصر.
في كبرى بلداننا العربية، مصر، كانت أصوات المدلسين على الفضائيات، النائحين على الطاغية البعثيّ، هيَ الأكثر إرتفاعاً ؛ منوّهة بما سبق لنا عرضه من دواع وموجبات quot; حقوقية إنسانية quot; رافضة لعملية الإعدام تلك : فقبل غزوة 11 سبتمبر بشهور ثلاثة ـ ونقولها للذكرى قبل كل شيء ـ جرى نقاشٌ حام على صفحات الجرائد والمجلات المصرية عن ظاهرة إجتماعية، خطيرة، وسِمَتْ في حينه بـ quot; جرائم الأطفال quot;. لقد كانت الآراء، بطبيعة الحال، متفاوتة في تحليل الظاهرة عند من أدلوا بآرائهم فيها. إلا أنّ ما يهمنا هنا، هوَ شبه إجماع تحقق بين أصحاب الآراء تلك، على أنّ quot; الشرع quot; يأمرُ بإعدام كل من يثبت عليه القانون فعل الجريمة بالغاً كان أم قاصراً. إذ ذهب بعضهم إلى التأكيد بأنّ : quot; الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (من أتى بمجرم فإقتلوه).. وأنّ الدعاوى التي تتردد وتدعو إلى تخفيف العقوبة عن الطفل ما دام لم يبلغ عامه الـ 17، دعاوى رومانية قديمة، تم نقلها إلى القانون الفرنسي، ثم تسربت إلينا، ولا أساس لها في الإسلام، خاصة أن الطفل حالياً قد يصل إلى مرحلة البلوغ في سن الثامنة من عمره حسب الدراسات الحديثة quot;. (الدكتورة ملكة زرار، أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة القاهرة : مجلة quot; نصف الدنيا quot; المصرية / العدد 591 ـ ص 27). سأوفر على القاريء الكريم إشارات التعجب، الفاضحة. فما يهمّ هنا، هوَ إعادة الجزم، بأنّ مبلغ النفاق في حياتنا المعاصرة هذه، قد ضرب مقاييس الأزمان السالفة جميعاً.
التعليقات