كعادته، يذهب العقل الجمعي العربي، الإطلاقي المانوي بطبيعته، من فشل دنيوي إلى فشل آخر : من أصوليات يسارية وقومية غاربة سيئة، إلى أصوليات إسلامية وليدة أسوأ. وكعادته أيضاً، دائماً ما يتعلّق بهذه الأصوليات، بوصفها حلولاً سحرية، تختزل المعقّد والمركّب إلى السحريّ والتبسيطيّ، مضحيّةَ بالواقعي في سبيل النظريّ، وناحرةً الحقيقة العيانية على مذبح الوهم أو الاستيهام.

نصف قرن تقريباً، هو النصف الأخير من القرن العشرين، سادت فيه الأصوليات اليسارية والقومية، ثم بادت أخيراً _ رغم بقاء بعض ذيولها تعمل ما تزال، مخلّفة وراءها انتكاسات واندحارات بل قُل هزائم مريرة مُدويّة. هزائم على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري. لتحلّ محلّها الآن، وربما إلى عقودٍ قادمة، أصوليات إسلامية (أو إسلاموية بالأصحّ)، تختلف عن الأولى، بأنها تصعد من القواعد والعوام، هذه المرّة، وصولاً إلى النُخب، ليكتمل السوادُ التاريخي، باشتماله على كل تفاصيل المشهد، من القاع إلى القمة، وبالعكس.

كانت الأصوليات الأولى، قد تكوّنت وبدأت مع نُخب مثقفة نوعاً ما، جاءت من الفئات الوسطى للمجتمع، ثم استولت على كراسي الحُكم، لتعمّمَ أطروحاتها، من فوق، على فئات المجتمع كافة، بالقوة وبالنفوذ، قبل الإقناع والإيمان. وهو نقيض ما يحدث الآن وما سيحدث في المستقبل مع الأصوليات الإسلاموية، حيث بنت هذه قواعدها، من القاع، ورسّخت وجودها هناك. مشمولة ومحمية بثقافة دينية شعبوية كاسحة، تشمل معظم فئات وشرائح المجتمع، باستثناء قلة قليلة من رجال الصناعة وبعض المثقفين الشواذ، قلّة لا تكاد تُحسب عدداً، في أي ميزان. أما الأصولية الإسلاموية، فلديها الجماهير والتيارات المجتمعية الجاهزة، المؤمنة والمقتنعة، لأسباب كثيرة، بأطروحاتها. فهي، والحال هكذا، ليست بحاجةٍ إلى فوقيةٍ ما في تعاملها، وربما أيضاً، ليست في حاجة بنفس القدر، لكي تفرض وجهات نظرها، إلى كراسي وامتيازات وثروات الحُكم، بل العكس هو الصحيح : كلما كانت بعيدة عن كراسي الحكم، وقريبة من المعارضة، يكون نفوذها أكبر وأخطر.

فلقد نشأت هذه الأصوليات، ثم تقوّت وشاعت وسط حاضنة [ مغلقة ومنغلقة ] من حزام البؤس الاجتماعي والمهمّشين في قلب وحواف المدن، فضلاً عن الأرياف والصحراء ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الحالة الفلسطينية.

أصوليات تعمل على ذات العقل، وبنفس آلياته السابقة : لديها الحل الأمثل لكل مشكلة أو مأزق. فمن القومية هي الحل والاشتراكية هي الحل إلى الإسلام هو الحل. أي لا يوجد الحلّ أبداً في الواقع وإنما دائماً هو هناك في النظرية.

والأفدح الآن، مع هذه الأصوليات الإسلاموية البازغة، أنها تحوّل الكائن البشري العربي، المثخن بهزائم الواقع وبتنكيلاته اللامحدودة، خلال قرون وليس فقط نصف القرن الآفل، من كائن دنيوي منهك، إلى كائن ديني شبه ميت. كائن ينتظر حقنة المخدّر الإكليروسي، ليتعافى من مواته على غير صعيد، غير واع بأنّ تلك الحقنة السامة، من يد سيد الإكليروس، ستصل به لا محالة إلى حالة الموت السريري، لا أقلّ.

نصف قرنٍ مضى، مُغطّىً ومشمولاً بعباءة القومويين والاشتراكيين العرب، ليحلّ محلّه، نصفُ قرنٍ قادم، ربما، متجلبباً بجلباب الإسلامويين الأصوليين. وما جناه المجتمع العربي من النصف الغارب، سيجني أفدح منه من النصف القادم.

هكذا يمضي العرب، ومعهم عقلهم الجمعي، من شِباك أصوليات علمانوية نوعاً ما، إلى أصوليات دينية، أشرس وأغبى، مضحّين أولاً وأخيراً، بحياتهم التي تمضي هباءً، وبحياة أجيالهم الطالعة وتلك الموجودة الآن نُطفاً في الأرحام، حاصدين الفشل التاريخي مع الحالتين وفي الحالتين على الأرجح.

أما أن يلتفتوا إلى تجارب الأمم المحيطة، ويتعلموا منها، فلا. وأما أن يشعروا بأنه آن الأوان للنزول إلى طين الواقع، بدل التحليق في سماوات اليوتوبيا الخُلّب، فلا. وأما أن يؤمنوا ولو متأخراً بنسبية كل شيء، وبنظريات وتفرّعات النسبية، بدلاً من عقلهم المُطلق والإطلاقي، فلا. وأما أن يدركوا أن لا حلول جاهزة ولا وصفات جاهزة، مع أية أيديولوجيا، وبالذات مع تعقيدات وتركيبات عالمنا الذي يزداد تعقيداً وتركيباً، كل مطلع شمس، فيغدو أشبه بشبكة العنكبوت، فلا.

فهم ارتاحوا إلى عقلهم التبسيطي، وكل عقل إطلاقي هو في المقام الأول عقل تبسيطي. وهم ارتاحوا أيضاً إلى نكوصهم السيكولوجي والحضاري، باعتبارهم [ ضحية الغرب والعالم، أو أضحيته الأزلية ]، وعليه فلا بد من انكفائهم على أثمن ما بأيديهم، وهو الدين، والتنقيب فيه عن حلول مستدامة ومستهامة، وصولاً إلى وهم الفلاح في الدنيا، فإن لا، فعزاء النجاة في الآخرة.

وهكذا، هكذا : لم ينزل العربي بعد عن شجرة الأفكار الكبرى المجرّدة، ليصافح واقع العالم، ويندغم في وحله وطينه وتفاصيله. فهو لا يزال وسيظل طويلاً، أسيراً ل [ إمّا.. أو! ] فإن فشلت أصولياته القوموية والاشتراكية، فثمة [ أو ] جاهزة ومنتظِرة، هي [ أو ] الأصوليات الإسلاموية، الطالعة هذه التارة من قاع وهوامش الجماهير، المحمية بالمقدّس الأعلى، والمشمولة بتأييده وتمجيده، التلباثييْن، مِن هناك من الأعالي.

لقد أثبتت الوقائع التاريخية، البعيدة منها والقريبة، أنّ العقل العربي، هو مخلصٌ فعلاً وقولاً، إلى صحرائه التي ولد فوق رمالها الجافة وتحت سمائها المجدبة. فقيرٌ فقر هذه الصحراء، وحَدّيّ مثل مناخها المتقلّب ما بين حرارة قاسية في النهار وصقيع قارص ليلاً. عقل اختزالي كسول، لا يعرف من مهرجان الألوان سوى أبيضها وأسودَها فقط.

وعلى ما يبدو، فلن يعرف غير هذين اللونين في نصف القرن المقبل. لأنّ حاله هذه المرة أفدح وأنكى : فقد سلّمَ، باستسلامه الأخير أمام الأصوليات الدينية المشمولة بالمقدس، آخر ما تبقى له من طرائق تفكير بشري عقلاني، وذهب إلى أوقيانوس الميثولوجيا المحض.

ذهب إلى مملكة الله بالكُليّة. ومن يذهب إلى هذه المملكة، على الأرجح لن يرجع منها، ولن يستيقظ من تجلياتها إلا برضّة أو صدمة. بل قل لن يعود إلى مملكة الأرض، حتى وهو عائش فيها فيزيولوجياً، إلا بتلك الرضّة وتلك الصدمة أيضاً. وكيف لا ومن يقومون على هذه الأصوليات، هم قوم لا تعنيهم الحياة الدنيا ولا يعنيهم الوجود الأرضي في شيء، هم المفتونون بالموت وبثقافته اللذيذة، وهم المستعدون له شخصياً، فما بالك بأفراد قواعدهم وعناصرهم؟ إنهم جاهزون، دون رمشة جفن، لإرسال هؤلاء كلهم إلى حفرة الأبدية الساكنة!

حال.. حالة من تحلل الوعي وتحلل الحياة ذاتها إلى مكوناتها الأولى، دون أدنى اعتبار لحركة التاريخ ولتراكمات التاريخ. حال.. حالة، يعود من خلالها عرب الألفية الثالثة، إلى مكوناتهم التاريخية الأولى، البدائية الموغلة في رماد القرون، لينتصروا بها على إسرائيل والغرب وكل العالم [ الكافر ]. فإما أن يفلحوا، وهم يعرفون أنهم لن يفلحوا، وإما أن يذهبوا إلى مملكة ربهم، أطهاراً شهداء، ضامنين الحياة الأبدية الباقية، وخاسرين فقط [ وما أهون هذه الخسارة ] حياة البشر الأرضيين، بما تشتمل عليه هذه من متاعب ومصاعب وإخفاقات وتعقيدات ومعاناة لا تنتهي.

ولأنهم صحرائيون وزراعيون بالأساس، كانوا كذلك وما زالوا، فهم يفضلون مملكة الله على مملكة البشر. فالمملكة الأولى، أبقى وأنقى، وتقريباً بلا شوائب، ولا تحتاج إلى عمل وجهد وتحليل واستقراء الخ.. أما الثانية فحدّث ولا حرج. لذا فهم اختاروا الأولى..
وعليه، فهم المنتصرون والفائزون، بالمنظور الاستراتيجي البعيد المدى والأبعد!