عفوا يا سيادة القاضي
لا اعرف شعبا في العصر الحديث يتفنن ويبدع في الإساءة إلى سمعته ومعتقداته مثلما نفعل نحن العرب حتى أنني أستطيع القول بأريحية شديدة أن الإساءة لأنفسنا وديننا هي أفضل ما نفعله في زمننا الحالي بعد أن طاردنا الفشل في اغلب مناحي الحياة الأخرى من كرة القدم حتى السياسة مرورا بكل ما تستطيع تخيله.
وأخر إساءاتنا للدين ذلك الخبر الذي نشرته جريدة الوطن السعودية (عدد الثلاثاء 23/1/2007) عن قيام قاضي بالمحكمة الجزائية في جدة بالحكم على شاب من متعاطي المخدرات يقضي بإلزامه بالالتحاق بحلقات حفظ القرآن الكريم بدلاً من سجنه لمدة ستة أشهر.
قد يسأل سائل وما الذي فعله القاضي سوى انه أمر بشيء محبب ومفيد بدلا من إصدار أمر بسجن الشاب ومن ثم إضاعة مستقبله والحكم عليه بالاستمرار في حياة الإدمان إلى الأبد، لكن ما قد يسقط عن البعض أن القاضي وهو رجل فاضل بلا شك حتى دون معرفة سابقة جعل القرآن الكريم خير ما انزل الله على عباده بمثابة العقوبة والا فما معني استبدال عقوبة السجن بعقوبة حفظ القرآن؟!! ثم بأي قلب سيتردد الشاب المعاقب إلى حلقة حفظ القرآن وهو يعلم أن يفعله ليس سوى قضاء عقوبة أمر بها قاض غير مألوف؟! كما يعلم أنه إذا لم يلتزم بحفظ القرآن خلال المدة الممنوحة له تتم مضاعفة العقوبة عليه بحسب نص الحكم؟!! أليس الأمر في أحسن أحواله سيكون مثل التلاميذ التي تحفظ المناهج الدراسية لمجرد سكب ما لديها من معلومات على ورقة الإجابة في امتحان نهاية العام ثم تقول عقولهم لكل ما حفظوه وداعا؟! وقبل كل ذلك أن القاعدة الفقهية تقول أن لا يجوز التعزير بالفرائض.
قد يقول البعض أن حكم القاضي ليس عقوبة بالمعنى المفهوم وإنما هو شبيه بما يحدث في الغرب حين يستبدل القاضي عقوبة ما بفترة خدمة مدنية يلتزم بها المحكوم لفترة لإثبات حسن سيره وسلوكه لكن لا يخفى على هؤلاء أن هناك فارقا بين كنس الشوارع مثلما فعل المطرب البريطاني جورج بوي مؤخرا أو أي عمل آخر مثل التقاط أوراق الشجر... الخ وبين حفظ القرآن لأن الإنسان في هذه الحالة يجب أن يتعامل مع الأمر باعتباره تشريفا وتكريما له لا عقوبة يلتزم بأدائها تفاديا لعقوبة السجن، ثم إذا فرضنا حتى أن الشاب نجح في حفظ القرآن كاملا فهل سيكون مقتنعا بما فعله وسعيدا به.
والحقيقة أنني لا اعرف سببا لغلاظة البعض في التعامل مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف رغم أن الغلظة كانت أهم صفة نهى الله عز وجل رسوله الكريم عنها quot;ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولكquot; (آل عمران 159) ذلك أن الغلظة فضلا عن أنها تؤدي غالبا إلى صرف قلوب المسلمين عن دينهم خاصة ضعاف النفوس في زمن يحفل بالكثير منهم تشوه بامتياز صورة الإسلام في الغرب وتكرس فكرة المسلم الرجعي الدموي التي يحاول الكثيرون هناك ترويجها بين المواطنين العاديين عن العربي المسلم رغم أن الحقيقة غير ذلك وان الإسلام أكثر الأديان بل يمكن القول مجازا وحسب تعابير العلمانيين (أكثر المجموعات القيمية) تحثا على نبذ الغلظة والكراهية وعلى إشاعة التراحم بين أفراد المجتمع كما انه دين يحث على التطور والتمدين بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول من استخدم الختم في الجزيرة العربية في رسائله المرسلة إلى ملوك العالم القديم لدعوتهم للإسلام (حسب علمي) وكان العرب قبله يعدونه بدعة يتندرون عليها لكنه لجأ إليها عندما عرف أن ذلك هو شأن الرسائل الرسمية في بلاد الروم وفارس التي تعادل الدول الغربية حاليا، والمعنى هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستنكف الاستعانة بفكرة غربية طالما أنها لا تتعارض مع الدين من ناحية وأنها تحقق هدفه في توصيل الدعوة من ناحية أخرى. ولا اعرف ما الذي كان يمكن أن يقوله الغلظاء إذا ما عاصروا ما فعله سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؟!.
وبمناسبة الحديث عن صورة المسلم الإرهابي في أذهان الغربيين التي نساهم نحن بكفاءة غير معهودة في ترسيخها بتصرفاتنا اذكر حادثة وقعت في لندن في أعقاب تفجيرات 11 سبتمبر 2001، ومساء نفس يوم التفجيرات كنت موجودا في مستشفى هناك حيث جاءت ممرضة بريطانية تطمئن على ابنتي المريضة ثم طال الحوار فاستأذنت لألحق بالصلاة قبل أن يفوت موعدها فإذا بها تشهق في ذهول وهي تقول quot;هل أنت مسلم؟quot; فرددت بالإيجاب لكن نظرة الاستنكار ازدادت اتساعا وهي تردد لكنك ترتدي البنطلون وتتحدث معي وتضحك بينما المسلمين لا يفعلون ذلكquot; وعندها وجدت انه من المناسب أن أعطيها فكرة بسيطة عن المسلمين وأخلاقهم وملابسهم وتعليمهم وما أوصانا به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من رعاية النساء والتكريم الذي اختص به ديننا النساء لتكتشف الممرضة المسكينة في النهاية أن الإسلام الذي تعرفه مختلفا تماما عن الذي شرحته لها.
لكن الآن ترى ماذا ستقول تلك الممرضة وغيرها في الغرب حينما يسمعون عن عقوبة الشاب الغريبة وان القرآن الكريم يفرض على المسلمين بالقوة بينما يتعلمون هم اناجليهم بالغناء والمرح؟!!.
التعليقات