جماعة quot;الإخوان المحظورةquot; في مصر لها باع طويل وتاريخي في التلاعب والتلون الظاهري، والخروج على الناس بالعديد من الأوجه، فيما الجوهر ثابت ومتحجر، لا يأبه لتغير الأزمان والأحوال، الثابت في فكر quot;الإخوان المحظورةquot; هو الهيمنة على المجتمع والدولة، لفرض فهمهم الخاص للدين، وهو الفهم الذي يتوسعون فيه ليطال جميع نواحي حياة الإنسان الشخصية والعامة وجميع أنشطة الدولة، وهم ينسبون فكرهم أو فهمهم للدين الإسلامي، بحيث يعدون ndash; ويدخلون في روع المؤمنين البسطاء- أن أي فهم آخر أو مناقضة لمفاهيمهم هو خروج أو اعتراض على الدين الإسلامي ذاته، ومن ثوابت تفكيرهم أيضاً استخدام العنف كقيمة في ذاته، وأيضاً لفرض رؤاهم الخاصة، ومهما حاولوا إنكار تجذر العنف في صلب خطابهم، سواء بإنكاره من الأساس، أو بادعاء أنه مجرد رد فعل لعنف الدولة مع كوادرهم، فإن هذا لا يجب أن يضللنا عن حقيقة أساسية العنف في أيديولوجيتهم، بتحميله على مفهوم quot;الجهادquot;، وقد حولوه من quot;فرض كفايةquot; إلى quot;فرض عينquot;، بغض النظر عن تصريحات قادتهم الإعلامية التجميلية، والتي نراها من قبيل الكذب الواضح، فيما يدرجونها هم تحت تسمية quot;الإيهام في القول لتحقيق المصلحةquot;، وهو ما أفتت أدبياتهم بجوازه، وسمحت لهم ضمائرهم الطاهرة بممارسة الكذب، بعد منحه تسمية رشيقة هي quot;الإيهام في القولquot;.
مثالنا هنا بسيط جداً، ففي الوقت الذي تقدم فيه quot;الجماعة المحظورةquot; نفسها للمجتمع والرأي العام المصري في ثوب حمامة، لتخطي أزمة الاستعراض الإرهابي في جامعة الأزهر، وللحصول على موطئ قدم بين الأحزاب السياسية الشرعية، تجاوزاً لما تتوقعه من حصار التعديلات الدستورية الجارية، هناك على بعد مائة متر من موقع كتابة هذه السطور لوحة جدارية حديثة بتوقيع الإخوان بمناسبة مئوية حسن البنا، اللوحة في ميدان شعبي يغص بالمارة والباعة الجائلين، مرسوم عليها سيوف وخناجر، ويتصدرها حديث منسوب للرسول ndash;رواه الترمذي- يقول: quot;من مات ولم يغز ولم ينتو الغزو مات ميتة الجاهليةquot;، وقد أفادني بعض المستنيرين المتفقهين أن هذا حديث غير صحيح، ومتعارض مع حقيقة أن حروب المسلمين كانت دائماً حروباً دفاعية، فيما يذهب هذا النص إلى جعل استخدام العنف حتمياً على كل مسلم وإلا مات ميتة الجاهلية، وأفتاني آخرون أن هذا الحديث حتى لو كان صحيحاً فإنه بطريقة عرضه على اللوحة الجدارية هذه قد تم اقتطاعه من سياقه وزمانه، وهو أيام حروب المشركين على الدين الجديد، بما يتحتم وقتها أن يهب كل مؤمن للدفاع عن إيمانه، لكن مخاطبة الناس البسيطاء الآن به في ميدان شعبي هو بلاشك خداع وتضليل للناس في دينهم، وتحريض سافر على العنف، ولو اقتنع واحد من الألف من المارة بما يريد الإخوان إقناعهم به، لأصبح لدينا في هذه المنطقة جيشاً جراراً من طالبي الغزو، وبالنسبة لأغلبهم لن تكون إسرائيل وأمريكا في متناول أيديهم، ومن ثم لن يجدوا أمامهم غير بيوت ومتاجر النصارى من مواطنيهم!!
تخرج علينا من جراب quot;الإخوان المحظورةquot; هذه الأيام خطابات عدة متزامنة متنافرة، رغم صدورها من جماعة صارمة الانضباط محددة الأيديولوجية، فعلاوة على الخطاب الحقيقي الموثق في أدبياتهم، والذي يسعون لترويجه بين الجماهير كما أسلفنا، هناك التصريحات الإعلامية المتضاربة، يدلي أحدهم بحديث عن اعترافهم بمبدأ المواطنة والمساواة التامة بين جميع المصريين، في ذات الوقت يكون آخر يدلي بحديث يتجاسر فيه على القول بتحميل الأقباط ضريبة مضاعفة، وحديث لثالث ينفي سعيهم لإقامة دولة دينية، وإنما مجرد تكوين حزب ذي مرجعية إسلامية.
إنها البراعة الفائقة في المراوغة والتلاعب بالألفاظ والمفاهيم، ليجعلوننا دائماً نلهث خلفهم، ونتصادم (نحن دعاة الحرية) مع بعضنا البعض، ونحن نحاول فرز ما يعلنونه عن قناعة، عن ما يعلنونه من باب quot;الإيهام في القولquot;، أيضاً ونحن نتابع تلاعبهم بالمفاهيم، بالإقرار بها، ثم العودة لتفريغها من محتواها الذي تعارفنا عليه جميعاً، بحيث نجد أنفسنا في النهاية عند نقطة البداية، وهي دائماً ذات الخطاب الفاشي، فحين يلوحون بكلمات براقة كالديموقراطية والمساواة يتنفس بعض المستنيرين الصعداء، قائلين: يكفينا هذا منهم، فإننا لن نحاسبهم على النيات، نقول لهؤلاء مهلاً يا سادة، فإطلاق الاصطلاحات دون الاتفاق الواضح على مضمونها لم يكن يوماً دليل خير أو شر، فتحت رايات نفس تلك المصطلحات التي رفعتها النظم الشمولية من شيوعية وقومية عروبية تم استباحة الحريات والأرواح، كما تم العصف بالأقليات وتبديدهم!!
ما نحن بصدده ليس من قبيل المحاسبة على النيات، ولسنا بحاجة لأن نشق الصدور لنضطلع على ما بها، لنرجع إلى صلب خطابهم الموثق، ونطالبهم بمراجعته ليتوافق مع ما يدلون به من تصريحات، وإلا كنا نحن الذين نخدع أنفسنا، بأن نكتفي بتغيير عنوان الكتاب، فيما متنه باق كما هو، فليراجعوا ويتراجعوا عما سطره حسن البنا وسيد قطب، بل وعبد السلام فرج صاحب كتاب quot;الفريضة الغائبةquot;، فما سجله الإخوان على الجدارية المذكورة هو استلهام لطرحه الأساسي.
مسألة quot;المرجعية الإسلاميةquot; التي يقول الإخوان أنها ستكون لحزبهم المدني مسألة ملتبسة، وعلى هذا الالتباس يتلاعب المتلاعبون، فلكل إنسان حقه في أن يكون له مرجعيته الخاصة، لكن هناك عدة ملاحظات:
فلا بأس (من قبيل التساهل وعدم التعسف) أن يدعي فصيل لمرجعيته اسم دين سماوي يؤمن به ملايين البشر، لكن لكي لا يكونوا كمن يحتكر هذا الدين لنفسه عليهم أن يبرزوا أن ما يعلنونه هو مفهومهم الخاص للدين وليس الدين ذاته، وأن ما يقولون به هو رأي بشري يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، عندها يمكن أن نتفاهم معهم كبشر مثلنا وليس كمفوضين للحديث باسم الإله، وقد نوافقهم على بعض ما يقولون، وقد نعارضهم في بعض آخر، ولأننا في معرض حوارات سياسية تخص حاضر الوطن ومستقبله فسوف يشارك في الموافقة والمعارضة مسلمون ومسيحيون وأيضاً من لا دين لهم، ومن الجوهري في هذه الحالة أن يكون واضحاً بلا لبس أن من يعارض من هؤلاء لا يعارض الدين الإسلامي ذاته، وإنما يعارض مفاهيم تلك الجماعة، وتزداد أهمية تلك النقطة إذا ما أخذت مناهج هؤلاء حيزاً في التنفيذ ثم باءت بالفشل، إذ ينبغي أن ينسب الفشل هنا إلى هؤلاء القوم، وليس إلى الدين ذاته.
بعد ذلك لنا عليهم أن يحددوا تفصيلاً ماذا يقصدون باصطلاح quot;مرجعية إسلاميةquot;، فهناك عشرات أو مئات المذاهب والنحل تتفرع عن جميع الأديان السماوية، ويخبرنا التاريخ أن بعضها كان رشيداً، وأن البعض كان غير ذلك، فإن كانوا فعلاً يمتلكون رؤية واضحة ومحددة، وليس مجرد عموميات يخايلون بها البسطاء، فلنر إن كان ما يعرضون يتسق مع دستور البلاد وقوانينها، ومع مواثيق حقوق الإنسان العالمية.
مسألة quot;المرجعيةquot; لها شقان، الأول هو معنى الأساس الفكري الذي نعود إليه لاستلهام الخطوط العريضة للتوجهات خلال تعاملنا مع إشكاليات الواقع، وهذا الشق من حق كل فرد وكل جماعة أن يكون لها فيه خيارها الخاص، لكن الشق الثاني من مفهوم quot;المرجعيةquot; هو أن تكون المعيار الذي يتم الرجوع إليه لتحديد حجم النجاح أو الفشل في الممارسة العملية، أي أن الشق الأول هو منهج السعي، والشق الثاني هدف السعي، وإذا ما تم في أذهان البعض التوحيد بين المنهج والهدف، ليكون هدف المنهج هو تحقيق المنهج، فإننا سنكون كمن يدور حول نفسه، لذا فعلى الأقل في ميدان العمل العام لأمة فإن المرجعية بمعنى المعيار الذي نعود إليه لتقدير الفشل أو النجاح ينبغي أن تكون واحدة بالنسبة للجميع، وهي رفاهية وتقدم المجتمع في جميع المجالات، الصحية والتعليمية والاقتصادية . . . . إلخ، فالمجتمع الذي لا يستطيع تحديد وتوحيد أهدافه لا يستطيع أن يبرح مكانه، اللهم إلا باتجاه السقوط!!
نقول هذا ونحن نعرف أن البعض منا لا يعرف له هدفاً له إلا الصراع إلى الأبد مع القوى العظمى، المسماة بالقوى الإمبريالية، والبعض لا يجد ما يتصايح به غير الوحدة العربية، وحدة تجمع جزر القمر وموريتانيا مع مصر والكويت وسائر الأقاليم التي لا يجمعها غير الاختلاف وتبادل الثارات والأطماع، فيما جماعة quot;الإخوان المحظورةquot; تطالع الناس بخطاب يقول بأنهم يحبون الموت بأكثر مما نحب الحياة، وأنهم لم يخرجوا من أجل وطن أو أرض ولكنهم جند الله، وأن الأمة التي تتقن صناعة الموت توهب لها الحياة، فكيف نستطيع والحالة هذه أن نحاسبهم إذا ما جلبوا لنا فعلاً الموت والخراب، فيما يمسك قادتهم بمفاتيح كنوز المال، وبسيف السلطان وصولجانه؟!
ألم تفعل هذا منظمة حماس (الفرع الفلسطيني للجماعة المحظورة)، إذ وضعت الفلسطينيين في مواجهة العالم، ليقعوا فريسة للفقر والتقاتل الداخلي، فيما يحمل قادتها الحقائب المكتظة بملايين الدولارات، ويجلسون على كراسيهم الوثيرة أمام كاميرات الفضائيات، يدلون بالتصريحات النارية والعنترية، ويرفضون مغادرة مواقعهم حتى لو انتقل كل الشعب الفلسطيني إلى جنة الخلد؟!!
كلمة أخيرة إلى السادة الليبراليين في منطقتنا وفي العالم أجمع: تفضلوا بالنزول لبعض الوقت من سماء العموميات والنظريات الليبرالية، لتتأملوا الأرض وما عليها ومن عليها، لتتأملوا قليلاً إن كان ما تزمعون على احتضانه حمامة أم صقراً، سمكة أم ثعبان!!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات