بعيدا عن روح التعصب وكل أشكال التطرف، يستوجب الأمر على كل المعنيين بالثقافة الإسلامية تنوير المسلم ndash; على الأقل ndash; بثقافة الحوار ومعرفة حقيقة الاختلافات بين المذاهب، واعتماد النقاش الهادف والموضوعي في دور كل مذهب من المذاهب، والتي تعني أنها روافد تصب في نهر واحد، تعزيزا لوحدة المسلمين وتأكيدا للفكر الإسلامي المتعارض مع التشدد والتطرف باعتباره فكرا وسطيا، كما يستوجب الأمر على المهتمين بالثقافة الإسلامية أن ينشروا ثقافة القيم والمفاهيم الإسلامية بعيدا عن إشكاليات التخريب والهدم وتأجيج النعرات الطائفية والغلو والدعوة الى تقسيم المسلمين.

والواقع الذي تعيشه الفرق والمذاهب الإسلامية واقعا مزريا يبتعد يوميا عن منطق الروح الايجابية والواقع الذي تعيشه الأمة، وخلال هذه الحقبة الزمنية ازدادت أعداد رجال الدين الذين يعملون كوعاظ للسلاطين، وازداد معه فقهاء الدين الذين وظفواانفسهم لخدمة الحكام، وتقدم العديد من الفقهاء والمفكرين لتوظيف الدين كوسيلة من وسائل التفريق وتعميق الخلاف بين ابناء الدين الواحد لغايات وأهداف ظاهرة أو باطنة.
وغابت الرؤية التي تعتمد الموضوعية والمنطق باتجاه التقريب بين المذاهب الاسلامية، وساد بديلا عنها لغة الاتهامات والطعن والتنابز، وساهمت دول وفضائيات وصحف في نشر واستشراء الظاهرة المذكورة.
وأذ تصبح الدعوة للتقريب بين المذاهب الإسلامية مطلبا إنسانيا، وتأكيدا لقوله تعالى :
(( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا ))
فقد بات العمل واجبا على تكريس المفاهيم الإنسانية والحقيقية في التوحيد بدل التفريق، وفي استعادة التآلف بدل تعميق الشروخ، وفي التحاور الموضوعي والنقاش الهادف بديلا عن التراشق والصراخ والاتهامات، وأن يحل التفاهم والوعي والالتقاء بديلا عن التباعد والتباغض.
وإذا كانت المذاهب الأسلامية ظاهرة طبيعية نتيجة التطور الفكري الأنساني، مع ضرورة التعددية الفقهية والفكرية وتطورها، ومؤشرا على أعمال العقل في مكونات المجتمع الاسلامي، الا أنها لايمكن بأي حال من الأحوال إن تنتج فكرا تنافسيا أو متنافرا مع الأخر، ولايمكن القبول بالتناحر المذهبي والتطرف في الإقصاء والإلغاء، ولا يعقل إن يسعى كل طرف للقضاء على الطرف الأخر بأية وسيلة متوفرة، وحين تحكم الأجواء والأحقاد مفاصل الاختلافات في الرؤى وبين فقهاء يفترض بهم إن يتفهموا الفرق بين العواطف والمواقف، وبين العقائد والجزئيات والفروع، وبين الحوار والتفاهم واعتماد القسر الفكري، حينها يكون أي حوار لايعدو الا إن يكون حوارا للطرشان لافائدة ترجى منه.

ويأتي مؤتمر الدوحة للتقريب بين المذاهب الإسلامية مثالا لتكريس ذلك التنافر وتعزيز الفرقة من خلال بحث أمور غير الهدف المعلن للمؤتمر، ومحاولة بعض أن يكرس النزعة الأتهامية لتعميق الشرخ بين المذاهب بقصد متعمد، ومحاولة جر المؤتمر لمواقف سياسية بحتة، ولغرض ذر الرماد في العيون، كان ينبغي إن يخرج المؤتمر في توصياته فيما يخص الحرب الطائفية في العراق مشددا على حرمة دم المسلم وعلى ضرورة تنقية المناهج في العالم الإسلامي من الشحن الطائفي.

وكانت أجواء العنف الطائفي في العراق سيطرت على أعمال المؤتمر فيما أعلن الشيخ يوسف القرضاوي خلال الجلسة الختامية للمؤتمر إن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه quot;قرر إرسال وفد يمثل الاتحاد الى طهرانquot;، محاولا بذلك الغمز بتابعية الشيعة الى آيران، ومحاولة اخرى بعيدة عن الضمير في طعن العراقيين من أن أمور العراق جميعها متعلقة بيد السلطات الآيرانية، مغمضا عينيه إن آيران نفسها متهمة بالتدخل في العراق، وان لها دورا لايقل خطورة عن دور الولايات المتحدة الأمريكية في الاحتلال والتخريب واستمرار وجود القوات الأجنبية على أراضيه.
وقال القرضاوي أن إرسال الوفد هو quot;لمحادثة المسئولين في إيران في هذاquot; معتبرا أن quot;الذي يملك المفاتيح في تحريك الأمور في العراق هي ايران، وبهذا الأمر فقد اعلن الشيخ القرضاوي صراحة موقفه التخريبي من حقيقة التقريب بين المذاهب وتوظيف المؤتمر لمواقف سياسية تم تكليفه بها من قبل وزارة الخارجية القطرية الراعية للمؤتمر.

ومن أطرف ما أشار إليه المؤتمر في بيانه الختامي الإشارة التي أكدتها عبارة (( عدم السماح بالتبشير لمذهب التشيع في بلاد السنة او للتسنن في بلاد الشيعة))، وهي أشارة طريفة لاتسمح للمسلم الشيعي إن يتمسك بأحد المذاهب السلامية ولا المسلم السني إن يلتزم بمذهب من مذاهب الشيعة، أسوة بعدم السماح للمسلم إن يبدل دينه وجاءت تلك التوصية بناء على الاتهامات التي طرحها الشيخ القرضاوي في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر حيث اتهم الشيعة بمحاولة نشر مذهبهم في داخل المجتمع الإسلامي، ولانعلم من أين استمد قوة عدم السماح تلك التي ارادها الشيخ القرضاوي للمسلم في الالتزام بمذهب من المذاهب الأسلامية وعلى أي قاعدة فقهية أو قانونية استند عليها؟
وجاء ذلك الموقف بناء على ما طرحه الشيخ يوسف القرضاوي حيث حمل بشدة على ايران التي اتهمها بمحاولة نشر المذهب الشيعي في بلدان سنية، بينما اتهم تسخيري دولة إسرائيل بالوقوف وراء الفتن المذهبية في لبنان والعراق.

وقال القرضاوي quot;لا يجوز ان يحاول مذهب نشر مذهبه في بلاد خالصة للمذهب الأخر.
وأضاف quot;ماذا ينفعكم ان تدخلوا بلدا سنيا وان تحاولوا ان تكسبوا افرادا للمذهب الشيعي؟، ويبدو إن الطرح السطحي بعيدا عن الهدف الأساس الذي زعم المؤتمر انه يقوم عليه في أيجاد أسس ومشتركات للتقريب بين المذاهب، باعتبار انه قام تحت شعار دور التقريب في الوحدة العملية للامة، ولم تكن هناك أية مقترحات عملية أو منطقية في هذا التقريب.
ويبدو إن ما خلص اليه المؤتمر من خلال السجلات الساخنة التي قال عنها بعض المشاركين من انه حوارا للطرشان.
من جهته قال أستاذ الحضارة الإسلامية في جامعة السوريون الفرنسية محمود عزب لفرانس برس أن الحاضرين في المؤتمر quot;جاؤوا برغبة مسبقة ومحددة في افحام الأخر وعدم الاستماع اليه (..) مما يجعله اقرب الى حوار الطرشانquot;.
من ناحيته قال المفكر الإسلامي المغربي خالد زهري أن اللقاء quot;لا يقوم على الوضوح !! انهم يركزون على مواطن الخلاف رغم قلتها اكثر من تركيزهم على مواطن الاتفاق رغم وفرتها.

أن مسألة التقريب بين المذاهب هدف أنساني نبيل، يشترط فيه أول الاشتراطات إن تخلص النيات الى تحقيقه، حيث لايوجد اختلاف في صلب العقيدة الإسلامية، وإنما يتركز الاختلاف في طريقة الحكم واختيار الحاكم، والاختلاف في الرأي من طبيعة البشر، ولكن التعصب والتشدد هو ما يرفضه الإسلام وهو مايزيدها ضعفا وفرقة، مع إن الروابط الأكيدة التي تجمع تلك المذاهب لم تزل قائمة لولا استغلال رجال الدين السياسي تلك الشروخ لتعميقها لأغراض نفسية وبناء على أوامر من الحكام في كل زمان ومكان، وصار التفرق سمة من سمات الأمة الإسلامية وإشارة لضعفها، مع أن الاختلاف ليس في الاعتقاد كما قلنا ولا في الأصول، إنما يتركز في الفروع والاجتهاد، مما يجعل قضية التقريب بين تلك المذاهب سلسلا وسهلا وممكنا.
وبدل إن يبحث المؤتمر من خلال نظرة إنسانية دينية لما يجري في العراق، بحث المؤتمر الواقع السياسي الذي تمليه ظروف السياسة الحاكمة في بعض من بلداننا، فجاءت النتائج مخيبة للأمآل لاتقرب القلوب ولاتجمع الناس في قارب النجاة، ولم تزل فؤوس التعصب توقظ رياح الشحناء والتباغض دليلا على إن الفرقة هي السائدة والعقل يغيب عن الواقع، وأن التقريب لم يحن آوانه بعد، وأن هذه المؤتمرات لم تأت لتلبية الواجب الإنساني ولا الرغبة الحقيقية التي تطمح اليها قلوب الناس، وإنما تأتي تلبية لرغبات الحكام، وماكان التقريب يقوم بين حكام متفرقين ومتباعدين، وماكان التقريب يقوم تحت رعاية سلاطين ورغبات سياسية، وماكان التقريب يقوم دون رغبة حقيقية ومجردة وسلوك ملموس في التجرد من الغاية.
لقد افتتح المؤتمر وختمت اعماله دون إن يكون للتقريب حضور.