الحرية جوهر الوجود الإنساني، فإن الله خلق الإنسان حرا، لان الحرية مناط التكليف، ومحور المسؤولية في هذه الحياة، ويبطل كل معنى للعقاب والثواب حتى على صعيدها المدني إذا لم يكن الإنسان حرا، ولذلك من التناقض بدرجة فاضحة أن نطالب الإنسان بمبدأ الإلتزام فيما نعمل على سلبه حريته. فالأنظمة الدكتاتورية والمعادية للديمقراطية تعمل ضد الحقيقة الإنسانية، إن لم نقل ضد الطبيعة.
الحرية والإلتزام متلازمان، هذا التلازم إذا كان يستند إلى إمضاء عقلي مبدئيا ، فإنه على الصعيد العملي يجب أن يُـترَجم على شكل قانون، أو مجموعة قوانين، تضمن تنفيذه، وهذه هي مهمة الدستور الاولى في الأنظمة الديمقراطية في العالم كله.
الحرية التي نتكلم عنها ليست الحرية بالمعنى الميتافيزي الذي يتناول مشكلة الحرية الذاتية، تلك القضية التي شغلت الفكر البشري وما زالت، فتلك قضية أخرى، لا علاقة لها بما نحن فيه، بل نقصد حرية الفرد، أو الحرية الشخصية، وهي محور الدساتير الديمقراطية، كما هو المفروض في دستور العراق الجديد.
الأنظمة الديمقراطية لا تتكلم عن الحرية بشكل عام، بل تتكلم عن الحرية على شكل فقرات قانونية للتطبيق، ربما لا تتضن ديباجة الدستور أي إشارة للحرية، ولكن النقطة المحورية التي يدور حولها الدستور هي الحرية، حرية الفرد، أو الحرية الشخصية.
لم يرتض الكثير من المفكرين الدستوريين والقانونيين والمهتمين بالحقوق المدنية... لم يرتضوا الحديث عن الحرية بعنوانها العام، مثل هذا الحديث لا يلامس حاجة الإنسان، الذي يلامس حاجة الإنسان ويدخل في قائمة إهتمامه الحريات المًسمَّات، ومن هنا قالوا ليس هناك حرية، بل هناك حريات. هناك حرية الصحافة، وحرية التملك، وحرية التدين، وحرية الرأي، وحرية التجمع، وحرية العمل السياسي، وحرية الكسب الحلال... وهذه الأنواع أو هذه الأصناف من الحريات تذكر على سبيل المثال، أي ليس على سبيل الموضوع المنتهي، بل على سبيل المثال ليس إلا، ذلك أن مساحة الحياة عريضة، وحركة التاريخ لا تقف عند حد، وبالتالي، ربما يجترح الفكر السياسي والقانوني البشري حريات أخرى، لم نعهدها نحن.
إذا كان البرلمان هو المسؤول تقنين الحريات، تشريعها، بيانها، توضيحها، تسطير موادها ، فإن الدولة على صعيد السلطة التنفيذية مسؤولة عن تنفيذ وحماية ورعاية هذه الحريات ، مسؤولة عن تحويلها من فكر إلى وا قع، من كلمات إلى أفعال، من أماني إلى وقائع، وعلى صعيد السلطة القضائية مسؤولة عن متابعة أي تعدي على الحرية وفق قوانين تُشّرع لهذا الغرض.
في العراق الجديد لا نطمح إلى دستور يقوم أساسا على فكرة الحريات، بل نطمح بعد ذلك إلى حكومة تعمل على تنفيذ وحماية هذه الحريات،ومن ثم نطمح لمستوى أرقى، مستوى أعظم، إننا نطمح إلى تأسيس مجمتع يتولى بنفسه تنفيذ وحماية هذه الحريات، هذا مستوى راق، مستوى يتناسب حقا مع أصالة شعب وادي الرافدين، ويتناسب مع تاريخه الدستوري الحي، فلا ننسى أن أول موسوعة قانونية كانت بفضل الفكر العراقي، وبفضل السليقة العراقية الملتزمة.
إن مجتمعا أو أمة تحترم حريتها، وتعمل على صيانتها، وتعمل على تطويرها، وشحنها بشعلة الحياة المتجددة ليس مستحيلا، قد يكون أمرا صعبا، ولكنه ليس مستحيلا.
إن سن مشروع الحرية في الدستور هي البداية، ثم حرص السلطة التنفيذية على إنزال المشروع من مرحلة الكتابة إلى مرحلة الفعل، وحرص القضاء على ملاحقة كل مس بالحرية، إن كل ذلك على مر الزمن كفيل بصنع مجتمع أو أمة تحترم حريتها، وتحب حريتها، وتجهد على تفعيلها بما يتناسب مع متطلبات حركة التاريخ، وما يترتب على دفق الحياة المتنوع من مستحقات.
الحرية ليست حقاَ لهذا المخلوق من البشر دون ذاك، بل هي حق شخصي، حق كل شخص في الوجود، ضمن ضوابط تحددها الظروف الموضوعية، ولكن هناك مبدأ عام، قاعدة عامة، يفرضها الواقع، ويؤيدها العقل، ذلك أن كل شخص تنتهي حريته حالما تبدأ حرية الآخر.
الحرية تنظم المسيرة الإنسانية ، فيما الديكتاتورية تخلق مسيرة إنسانية مضطربة، موسومة بالروتين والخوف والبعد الواحد، ولذلك مجرد أن تزول السلطة الديكتاتورية تنبعث فوضى عمياء، قد تسبب أوجاعا عميقة، الحرية تهذب الذوق البشري، فيما الديكتاتورية تخلق ذوقا بشريا سمجا، ومن هنا ينبغي أن لا نصطدم فيما إذا شاهدنا ضحالة الفن في مجتمع الديكتاورية، هذه حقائق ليست نظرية فقط، بل الواقع يؤكد ذلك. كل قيمة من القيم وكل نشاط من الانشطة الإنسانية الحية تجد مرتعها الخصب في عالم الحرية، الديكتاتورية تجير الحياة لأنماط مسبقة، الحرية التجدد والخلق والابتكار.
الدستور هو المحك في معركة الحرية،لا يجيز أي قيد على الحرية إلا في حدود محسوبة بدقة، وعلى رأسها المصلحة العامة، والإلتزام بخلق المجتمع العام، على أن يحدد ذلك القضاء، وليس الأعراف المجردة، فإن من الأعراف ما يقيد الحرية حتى يجهضها في مهدها.
إذا دققنا النظر في تقييد الحرية بحد المصلحة العامة لا يعني اي تناقض بين الحرية والمصلحة العامة، لسبب بسيط جدا، أن المصلحة العامة هي التي تضمن أو هي التي تهيئ ظروف إجراء الحرية، هي ا لتي توفر فرصة إزدهار الحرية، فلا فرد عندما تنهار المصلحة العامة، لا مجال للحديث عن الحرية لو لم يكن هناك فرد، لأن الحرية أساسا هي حرية الفرد، أي الحرية الشخصية. والأداب والأخلاق خاصة في منظورها المدني والفلسفي ضمان للحرية، لانها ضد الاعتداء على حقوق الأخرين، ولأنها ضد العنف، وضد أي محاولة لسلب الحياة بغير سبب موجِب، وبالتالي، هي ليست قيودا، بل هي ضمانات سلامة وتنفيذ.
تاريخ البشر هو تاريخ البحث عن الحرية، وتاريخ العمل من أجل الحرية، وفي العراق أعطينا دماء غزيرة من أجل حريتنا، شعب وادي الرافدين قاوم الديكتاتورية على مر عصوره التاريخية السحيقة، ولم تكن المقاومة من أجل الخلاص من شخص ديكتاتور، بل من أجل الخلاص من الديكتاتورية، الديكتاتورية كفكرة، وكحكم، وكمشروع، وكحالة، وذلك هو الوجه الآخر للنضال والعمل من أجل الحرية، الحرية هي الجوهر، هي الدافع. ومن هنا نقدم هذه النقاط المهمة للسادة أعضاء البرلمان العراقي، إسهاما منا في تطوير الحياة السياسية العراقية، لتتمخض أخيرا عن تحقيق الهدف الكبير، ذلك هو الإنسان العراقي الحر.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية