قبل أن يُطلق عليه مؤسس الدولة العربية وأبرع سياسيّها الخليفة معاوية بن أبي سفيان اسم quot;بيت مال اللهquot; كان اسمه quot;بيت مال المسلمينquot;. أي أن المال ملك المسلمين كافة، وحق لهم، يتقاسمونه فيما بينهم. وكانت أموال الزكاة، وغنائم الغزو والخراج من مال وأنعام وأرزاق ونساء، توزع- دون فضل من الخليفة أو منة- على عموم المسلمين، الفقراء منهم والأغنياء، بغض النظر عن تفاوت الحصص بين هذا وذاك، فقد روى الرواة أن بعض كبار الصحابيين الذين عانوا فقرا وشحا قبل الهجرة، وخلال سنواتها الأولى، وقبل فتح البلدان، ماتوا عن أموال لا تأكلها النيران. وقُدرت ثروات بعضهم بمئات الآلاف من الدنانير، عدا البيع والبساتين والأراضي والأنعام. ومن مآخذ المعارضين على الخليفة الراشدي الثالث ذي النورين عثمان بن عفان أنه قتّر على الآخرين، وأغدق الأموال والعطايا على أقربائه، وخاصة صهره مروان بن الحكم. ونقل- وقيل استعار- بعض الغنائم الذهبية الثمينة النادرة، من بيت مال المسلمين إلى مخدع زوجته.
لقد أدرك ابن أبي سفيان، بما يملكه من رؤية ثاقبة، وخبرة وذكاء ودهاء، ومعرفة بأخلاق وخبايا الناس، أن المنافقين كُثر. ف(الصلاة خلف علي أثوب، لكن طعام معاوية أطيب). أي أن المال قوة، ومن يملك القوة يملك الحق (حق القوة). وإن المال سر خضوع الرجال والنساء، والوسيلة الأنجع للبقاء، واستقطاب الموالين والعيون والأتباع. فمن الناس من يكذب وينافق من أجل المال. ومن الناس من يتجسس ويخون من أجل المال، ومن الناس من يبيع عرضه، ويبيع السموم والسلاح من أجل المال. ومنهم من يغدر بأهله وإخوانه، ويقتل ويفحش من أجل المال. ومن يخاطر بحياته من أجل المال. فالحروب والفتوحات والاحتلالات قامت وتقوم من أجل المال، والزعامات والجماعات تتنازع على السلطة من أجل المال. والقوانين تُسن لحماية المال وأصحاب المال. فالمال يغير الضمائر والأخلاق والأحكام والقناعات والتوجهات، ويجعل الحق باطلا، والباطل حقا. والأسود أبيضا، والأبيض أسودا. فكيف إذا اجتمعت سلطتي: التفويض الإلهي والمال؟ أي إذا امتلك من صاحب السلطة حق منح وحجب المال؟
لم يعترض أحد من الناس حين استبدل الخليفة معاوية بن أبي سفيان اسم (بيت مال المسلمين) باسم (بيت مال الله). ومن يعترض على هذا الاستبدال؟ أليس الله خالق ومالك السموات والأرض وما فيهما وعليهما، و أليس الملك كله لله؟ وبما أنه (أي معاوية بن أبي سفيان) خليفة المسلمين وولي أمرهم، والموكل بمتابعة شؤونهم، وحسن تنفيذ أوامر وتعاليم الله. فهو مؤتمن على مال الله، وموكل به أيضا. ينفقه فيما يرى مصلحة الخلافة- وملكه- وتوطيد أركانها، ومصلحة البيعة والمبايعين، وكي يضمن- رأفة بالرعية- ألا يموت أحد كافرا، وتسول له نفسه أن يمتنع عن مبايعة خليفته. فقد قيل (من لم يبايع خليفته مات كافرا). وحفاظا على وحدة الأمة المتمثلة في إجماعها على رأي واحد، وعدم خروج أحد عن هذا الإجماع. فقد قيل أيضا (من بايع وعاد عن بيعته فقد خرج عن إجماع الأمة) والخروج عن إجماع الأمة والعياذ بالله فيه الهلاك. فمن مصلحة الخلافة والرعية أن يبقى سيدها وولي أمرها بأحسن الأحوال، يدعون له في كل صلاة جمعة بطول العمر وهناءة البال، والنصر الماحق على الأعداء والمخالفين والمتربصين. ومنذ ذلك الاستبدال صار الخليفة إن أعطى فتلك مكرمة من مكارمه، وإن منع فذاك حقه، وهو أدرى بالغاية والمصلحة والسبب والمآل.
ومنذ ذلك الحين الذي أفتى به مشايخ الدين لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان باستبدال اسم بيت المال، انتقلت ثروات البلدان وأهل البلدان إلى أيدي خلفائها وأولي أمرها. وتحول أولئك السلاطين والأولياء من مؤتمنين على الثروة إلى مالكيها، يوزعونها على الأبناء والأقرباء والأتباع الذين يكدسونها في البنوك والقصور، وينفقوها في القمع والحماية والملذات. فازداد الفقراء فقرا، والجهل اتساعا، والبلدان تخلفا، واستشرت ثقافة الإرهاب والتكفير، والنهب والتبرير، وثقافة الخوف والكبت والنفاق والخرافات.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات