في رائعة الرحابنة وفيروز quot;بياع الخواتمquot; ظل البطل quot;راجحquot; طيلة الوقت مجرد شبح، ولم يظهر إلا في المشهد الأخير، عجوزاً طيباً يمتهن quot;بيع الخواتمquot; للصبايا، خلافاً للشائعات التي أحاطت به حين كان لغزاً، وقد صورته لصاً قاسياً يسرق quot;تحويشة عمرquot; سيدة مسنة وماعز فلاح فقير، ويهدد الآمنين المسحوقين لهثاً وراء لقمة العيش .
وحده quot;المختارquot; أو quot;العمدةquot; الذي كادت تقتله الحيرة أو بتعبير أدق الصدمة إزاء ما يجري في ضيعته، لأنه باختصار كان من اخترع أكذوبة اللص الخطير quot;راجحquot; حتى يشعر أهل القرية بحجم تضحياته، وينغمسوا في الاهتمام بأمر quot;اللص الشبحquot;، بدلاً عن الخوض في أمر بقاء المختار في موقعه، ومحاسبته على سنوات حكمه الطويلة .
ولأن كل الخرافات تجد من يمتطيها، ويتربح من رواجها وانتشارها، فقد قفز بالفعل بعض أشرار القرية على تلك الأكذوبة، واستغلوا هوس العامة ورعبهم من الشبح الذي اخترعه المختار الماكر، وراحوا يسرقون وينهبون ويروعون الآمنين، وهكذا تحولت الخرافة إلى وقائع، وأصبح الشبح حقيقة، وبالطبع فإن quot;المختارquot; هو الرجل الوحيد الذي يملك الدليل على أن هناك أشراراً استغلوا quot;أكذوبة راجحquot; ليرتكبوا هذه الجرائم، لكنه أيضاً هو آخر شخص في العالم يمكنه أن يقدم على كشف الحقيقة، لأنه ببساطة لن يتنازل عن صورته المقدسة، ويعترف على الملأ بأنه كاذب ومخادع .
راودت مخيلتي هذه القصة، وأنا أتابع أحداث شبح جديد يظهر في ضاحية المعادي جنوب القاهرة، في أعقاب تعرض عدد من الفتيات والسيدات للاعتداء بسلاح أبيض من قبل شخص مجهول خلعت عليه وسائل الإعلام في مصر لقب quot;سفاح المعاديquot; وأصبح بين عشية وضحاها حديث الضاحية الأنيقة الناعمة، التي أنشئت متاخمة لمعسكرات الاحتلال البريطانية، وظلت أقرب إلى سمت المدن الأوروبية، وربما لندن بالتحديد، ولهذا اتخذها الدبلوماسيون الأوربيون سكناً لهم منذ أكثر من نحو نصف قرن مضى .
وبدا الذعر الشعبي من شبح السفاح مثل كرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت، وكثفت أجهزة الأمن نشاطها في الحي ونشرت عددا كبيراً من عناصر الشرطة السريين، ضمن خطة قيل إنها تستهدف القبض على quot;الشبحquot;، الذي رجح أطباء نفسيون أن يكون quot;مختلاً عقلياًquot;، خاصة وأن كل ضحاياه من المصابات تعرضن للطعن في مواضع العفة من أجسادهن، في ملابسات يكتنف الغموض فيها حقيقة دوافع الجاني، حيث لم تتعرض الضحايا للسرقة أو حتى لمحاولة الاعتداء عليهن جنسياً .
لكن في المقابل ففقد كانت هناك مخاوف مبررة لدى البعض من أن يكون هذا الشبح هو أحد المهووسين دينياً، الذين ساهم الإعلام الحكومي الموجه في صناعتهم، وأدت المزايدات الدينية بين الحكومة والإخوان إلى تفاقم أعدادهم على نحو مطرد بات يهدد بكارثة محدقة، خاصة وأن هذا quot;السفاحquot; يتعمد إيذاء الفتيات في مواضع حساسة من أجسادهن .
ولأن الهوس الجنسي يرتبط بشكل أو آخر وبدرجة أو أخرى بالهوس الديني، ولعل المتتبع لخطب وكتابات الدعاة الجدد من مروجي الهوس الديني، سيلمس بوضوح مدى ولعهم بالإسقاطات الجنسية، وquot;فتاوى النساءquot;، ومعارك quot;رضاعة الكبيرquot;، وأحكام زواج الإنس بالجن .
وأخيراً يبقى هناك احتمال ثالث وهو ألا يكون هناك أي وجود لما يسمى السفاح، والأمر لا يخرج عن عملية مدبرة تستهدف إلهاء الناس عن همومهم الحقيقية، خاصة في ظل اشتعال الجدل حول التعديلات الدستورية التي اقترحها الرئيس مبارك، وتجاهل فيها ما يمس عدد مرات ولاية الرئيس، أو يقترب من صلاحياته الواسعة التي لا تدع في البلاد ديكاً سواه، دون رقيب اللهم إلا من يختارهم لهكذا مهمة شكلية لا قيمة لها، كما كان الحال زمن الاستفتاءات وإن تغيرت أدبيات المرحلة ولغتها وسيناريوهاتها لكن يبقى الجوهر واحداً، رغم حداثة أساليب الاحتيال السياسي، وبريقها quot;الفالصوquot; المثير للغثيان .

اللهو الخفي
وللسلطة في مصر تراث طويل في اختراع أشباح quot;اللهو الخفيquot;، ففي العهد الناصري أشاعت السلطة وكتبت صحفها بإسهاب حكاية فتاة كانت تقف شبه عارية استوقفت أحد سائقي سيارات الأجرة بالقرب من مقابر quot;الخفيرquot;، وطلبت منه أن يوصلها لمكان ما في المدينة، ولما كان البرد قارصاً أعطاها معطفه لتستر به جسدها، وحين وصلت إلى العنوان طلبت منه أن ينتظر قليلاً حتى تحضر له الأجر من منزل أسرتها، ولكنها غابت ساعة مما اضطره إلى الصعود للشقة التي حددتها، وفتح له الباب رجل مسن، وبعد سوء تفاهم ومناقشات حادة استغرقت وقتاً نفى خلالها الرجل أن يكون هناك من يقيم معه سوى زوجته العجوز، لولا أن السائق لمح صورة معلقة على الجدار، فقال إنها صورة الفتاة التي استقلت سيارته، وهنا أسقط في يده حين أكد له الرجل المسن أن الصورة لابنته التي توفيت قبل سنوات وهي في ريعان شبابها، وأراد أن يبرهن له على ذلك فاصطحبه إلى قبرها، الذي كان قريباً من المكان الذي استوقفت عنده السيارة، وهناك كانت المفاجأة الكبرى حين وجد السائق معطفه على القبر .
وهذه العينة من القصص الخرافية، والأشباح المصطنعة لإلهاء الناس عن القضايا العامة، تلجأ إليها السلطة المستبدة في أزمنة الكرب والأزمة، على سبيل المثال فإن قصة quot;فتاة القبرquot; انتشرت عقب هزيمة يونيو 1967، حين انطلقت الألسنة في مصر تعارض وتسخر من أبواق السلطة، الذين تحدثوا عن quot;إلقاء إسرائيل في البحرquot;، ليستيقظ الناس على هزيمة مريرة، احتلت خلالها إسرائيل ثلث مساحة مصر، ولو شاءت لاحتلت القاهرة .
وهاهي أجواء الاحتقان ومن ثم قصص الأشباح تعود إلى صدارة المشهد المصري، بعد أن استفحل الفساد، وتمدد الاستبداد، وتعاظمت المظالم على نحو لم تعد تفلح في إخفائها بيانات الحكومة الكاذبة، ولا الهوس بكرة القدم، ولا بضاعة الهوس الديني التي روجتها الحكومة طويلاً لتجد نفسها مضطرة إلى اختراع أشباح من طراز quot;سفاح المعاديquot;، الذي انتقل إلى أحياء أخرى، وأصبح حديث المقاهي والمنازل والأسواق في عدة أحياء من العاصمة المصرية التي تتمدد في كل اتجاه كأنها وحش أسطوري .
وكدأبها التاريخي استهلت أجهزة الأمن مهمتها بالتشكيك في صحة تلك الحوادث، ونقلت صحف حكومية عن مصادر في وزارة الداخلية في بداية الأمر قولها إن القصة لا تعدو أكثر من شائعة رددها البعض بغرض إثارة البلبلة في البلاد، غير أن الأمور سرعان ما عادت سيرتها الأولى، بعدما تعرضت تلميذة في المرحلة الإعدادية لطعنة نافذة في منطقة حساسة من جسدها، سددها صوبها مجهول، وهكذا لم يعد هناك أمل في إخفاء الوقائع التي توالت على نحو اختلطت فيه الحقائق بالادعاءات تماما كما جرى في إحداها حين توجهت قوات الأمن بأعداد كبيرة إلى شارع أحمد زكي، الذي حددته سيدة مجهولة خلال اتصال بثته إحدى الفضائيات، وحتى تكتمل عبثية المشهد وإثارته فقد تكدس السكان في الشارع، وتعطلت حركة المرور تماماً، وسادت الفوضى المكان، وبعد ساعات خرج على الملأ من يعلن أنه لم يكن هناك سفاح ولا من يحزنون .

وأخيراً
ولعله أمسى واضحاً بين ثنايا تفاصل quot;ظاهرة السفاحquot; أن هناك تراثاً طويلاً لدى المصريين من انعدام الثقة في السلطة، وقد بدت كالغريق الذي لا يهب أحد لنجدته من فرط ادعاءاته الكاذبة في وقائع مماثلة أو مشابهة، وبالتالي لجأ القطاع الأكبر من المصريين إلى سلوكهم الشهير، حين يقفز على المأساة بالتنكيت، ولا بأس أيضاً من بعض الممارسات الانتهازية، ليتحول مسلسل quot;سفاح المعاديquot; إلى مادة للتسلية والسخرية والتربح وتصفية الحسابات الشخصية والسياسية وquot;ياما في الجراب يا حاويquot; .
والله المستعان


[email protected]