الألم لا ينكتب. يُحس فقط. ولكي ينكتب يحتاج إلى فسحة من المسافة النفسية : شيء من الحياد وابتراد الحواس. وما نعيشه منذ أسبوع وأكثر، يضعنا في قلب الألم ويبتعد بنا عن قلب التحليل. فما يحدث في غزة هو أمر فوق الوصف وفائق للعادة. قبل هذا التاريخ، كانت ثمة مناوشات واحتكاكات، يسيل منها دم عزيز قليل، ثم تعود الأمور إلى طبيعتها الغامضة المراوغة. لكن ما حدث منذ الخميس قبل الماضي، هو بكل مقاييسنا نحن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، شيء فائق للعادة، وقبل ذلك وربما بعده : شيء فائق للكتابة أيضاً. فقد تخلّى قادة الفريقين المتصارعين عن آخر ورقة تين، وبانوا على حقيقتهم الدموية المريعة : قطاع طرق لا مناضلين : قادة فضّلوا مصالحهم الشخصية ومصالح أحزابهم على المصالح العليا لشعبهم بكل ألوان طيفه الكبير المتعدد. ولذلك لم يرف لهم جفن حين ذهبوا بصراحة ونصوع إلى أول أيام الحرب الأهلية [فالخميس ما قبل الماضي، واقعاً وحقيقةً، من حيث الحجم والخسائر وهول المواجهات وأنواع الأسلحة، هو أول أيامنا في الحرب الأهلية الفلسطينية]

الآن، وبعد أسبوع من ذلك التاريخ الأسود، ها هم يقبرون أحلامنا وآمالنا، دفعة واحدة. ها هم يضربون بآلامنا التي تجاوز عمرها القرن من الزمان عرض الحائط. ملتفتين إلى حسابات رديئة دنيئة تخصّهم هم فقط، ولا تعني أحداً من عقلاء شعبهم في الداخل والخارج.

قادة هم أُس البلاء والداء. وما أسوأ أن يُطلب منهم، هم عينهم، الدواء. كل واحد منهم يتمترس خلف ترسانات من الحجج والمسوّغات التي تسمح له بإشعال فتيل حرب عبثية لا يخرج منها أحد رابحاً سوى عدونا التاريخي. هذه الحقيقة البسيطة غابت عن عقولهم القاصرة، وعن قلوبهم التي تحجّرت منذ سال دم أولى الضحايا في حروب الإخوة. وأظن أن التقاءهم لن يجدي، حتى لو تم ثمة بجوار البيت العتيق.

لكن المشكلة ليست هنا تماماً. المشكلة هناك في الشعب الذي انتخبهم وجعل منهم قادة وقيّمين على حاضره ومستقبله. المشكلة في الشعب، فهذا الشعب الذي فرحَ ليوم الانتخابات، لا يمتلك ثقافة الانتخابات، بما هي تتويج أعلى لمنظومة سياسية كاملة متكاملة من القيم اسمها الديمقراطية. هو أخذ التاج، دون أدنى معرفة بما تحته. هو المحتل والعشائري والعائش في قوقعة الفصيل، الذي لم يتعوّد يوماً على منظومة الديمقراطية، بما هي مجتمع مدني وحقوق إنسان، أي بناء متكامل، يبدأ من تحت وصولاً إلى الذروة. فما حدث لدينا كان معكوساً : مجتمع متخلف، عشائري في بُنيته، لا يعرف حقوقه المدنية ولا يهتمّ بها أصلاً، انتخبَ واكتفى بذلك، دون أن يساءل من انتخبهم إلى أين أوصلوه. ودون أن يفكّر بالخروج وإعلان العصيان المدني على من ساموه سوء العذاب والتقتيل والجوع والمذلة. هو شعب تعوّد فقط على واجباته حتى دون أن تُطلب منه : على التضحيات ونقطة. أما أن يسأل ويحاسب ويرفض ويضغط، فتلك كلها مفردات في قاموس الديمقراطية لم تصل إليه بعد.

المشكلة في هذا الشعب ذاته. فهو الذي جعل من نوع معين من الناس الشعبويين قادةً له. المشكلة في شعبنا : كلما أخطأ القائد المنتخب أو غير المنتخب في حقوقه، وضعه شعبنا في مكانة أعلى، وكافأه على أخطائه وخطاياه. وهذا كلام ينطبق على قادة الفصيلين الأكثر شعبوية بيننا : فتح وحماس.

قادة فقدوا البوصلة لأن شعبهم فقد البوصلة من قبلهم حين انتخبهم. تلك هي الحقيقة المؤلمة. ودعكم الآن من كل الكلام العاطفي النبيل الذي يستنكر ويرجو ويناشد. فنحن الضحية والجلاد في آن. نحن المقتولين والقتلة. نحن من نشتم هؤلاء القادة، ثم عندما تهدأ الأمور، نلوّح لهم بالمناديل، وننعتهم بنعوت لا تقبل أن تكون أقل من نعوت تاريخية. لكأنّ صدام حسين لم يمت بعد. فما زال ميراثه يعمل فينا. يأخذوننا إلى حرب تقتيل أولادنا، فنصفّق لهم حين تنتهي الحرب ولا ينتهي عبثها وخسرانها الأليم.

المشكلة فينا. لدينا قادة دمويون فاشيون، يحسبون ضحايا هذه الحرب بالأرقام، ولا يعنيهم البشر وعذابات البشر. فهم ليسو بشراً وإنما أجهزة حاسوب. ومع ذلك، مع أم الجرائم هذه، لا نفكّر في إزاحتهم أو محاكمتهم. مع أننا نعيش على تماس مع دولة أخرى، لا أحد من مواطنيها فوق القانون. دولة تحاسب رئيسها على قضية تحرش جنسي، وستفصله، إن لم يكن اليوم فغداً، عن منصبه. فلا أحد فيها، مرة أخرى، فوق القانون. وما تفعله مع رئيسها ستفعله ربما مع رئيس وزرائها عما قريب. أما نحن فقادتنا يصدرون أوامر القتل وتهديم البيوت على رؤوس ساكنيها، وهم يعرفون أنهم بمنأى عن السؤال والمحاسبة، حتى لو وصل عدد الضحايا إلى ألوف، فهذا وهذه ليست من أعرافنا ولا من تقاليدنا العربية الأصيلة ولا حتى الدخيلة.

إن المطلوب اليوم وبشكل عاجل هو أن يُحاسب هؤلاء القادة القتلة في كلا الجهتين. وما لم يتم ذلك [ وأين له أن يتم في دويلة الفوضى الشاملة ] فلا أمل ولا منجاة من الوقوع مرة أخرى وثالثة وعاشرة في براثن حرب أهلية تبدأ صغيرة ثم ككرة الثلج أو النار تتدحرج وتكبر شيئاً فشيئاً.

أما القول بأن هذه الحرب هي عار على الشعب الفلسطيني، فهذا كلام أخلاقي لا سياسي. كلام هو محض زبد [ مع الأسف ] ولا يستطيع أن يمنع تكرار حدوث الكارثة مرات ومرات.

لذلك أنا أقترح جاداً، كيما نحلّ المشكلة إلى الأبد، أن يؤتى بشعب من المريخ، بدل شعبنا الحالي، وحينها يعلن الشعب الجديد العصيان المدني، ويخرج برمته للشوارع، مطالباً باستقالة عباس وهنية ومشعل، ليحاكمهم بعد ذلك. فهذا أقل ما يستحقه هؤلاء القادة الشعبويون. ثم يُصار إلى انتخابات جديدة، تأتي لنا بقادة نخبويين لا شعبويين، علّنا نفلح ولو قليلاً في إدارة أقسى وأعقد صراع عرفه التاريخ السياسي الحديث.

قد أبدو طوبائياً؟ مجنوناً؟ لا غرو في ذلك. فأنا طوباوي ومجنون لأنني عاجز عن التعبير والتغيير، وغارق فقط في الألم الأبكم. الألم الذي منحتنا إياه فتح وحماس، غير مشكورتيْن، في صراعهما المجنون على سلطة رثة، بل قل سلطة مضحكة ليس فيها غير اسمها الفلسطيني الجريح.

ليفريوت يسرائيل!