ما زال التهليل والتأييد لآوباش مايدعى بالمقاومة العراقية على أوجه. فلا يمكن للمرء أن يزور موقعاً الكترونياً سياسياً أو أن يستمع الى إشتراكات المشاهدين على القنوات الفضائية العربية دون أن يواجه بسيل من التأييد لهؤلاء المقاتلين الأشاوس. ومن العجيب والغريب أن العرب والمسلمين يصيبهم العمى والصم عندما يواجهون الأدلة الدامغة بإن الذي يقوم بإرتكاب الجرائم البربرية ضد أبناء جلدتهم الذين يدعون الدفاع عنهم إنما هم ذات الأبطال الذين يمجدونهم.
والسؤال هنا هل من المقبول أن نمجد مجرماً جلاداً متطرفاً يكفر الآخرين ويدعو الى قتل العراقيين بالجملة لمجرد إنه يجاهر بالعداء لأميركا ويرفع السلاح ضدها؟
من الواضح أن الجمهور العربي والمسلم غير معني بالمرة بمواصفات أو خلفية من يدعون محاربة الصهيونية والإمبريالية. فالشارع العربي والإسلامي مستعد إستعداداَ كاملاَ أن يمجد ويؤله أي ساقط أو جاهل من أصحاب السوابق ونزلاء السجون بمجرد أن ينطق بضع آيات من القرآن ويتحدث عن الجهاد مثلما حدث في حالة المقبور المدعو أبومصعب الزرقاوي. ففي أي مجتمع طبيعي يتمتع بحد أدنى من الأخلاقية والإنسانية والإستقامة فإن صعلوكاً تافهاً كهذا كان سيرمى في السجن أو يدخل في دورات إصلاح الجانحين حيث يجبر على أن يتقن مهنة شريفة قبل أن يسمح له بالخروج طليقاَ الى المجتمع. أما في المجتمعات العربية فإن هؤلاء البرابرة الأجلاف يتم تمجيدهم كقادة للأمة.
لقد لخص الشاعر التنويري السوري أدونيس موقفه من سيناريو كهذا عندما صرح بكل شجاعة في مقابلة على تلفزيون دبي الفضائي بإنه ضد حكومة حماس حتى لو حررت فلسطين وبإنه سيناضل ضد حماس سواء حاربت إسرائيل أو لم تحاربها لكونه يعرف معرفة اليقين أن حماس سوف تبني دولة دينية ثيوقراطية شمولية سوف تنتهك فبها الحريات وسوف ل يكون فيها وجود لحقوق الإنسان. فلو كان هذا صحيحاً في حالة حماس فمالذي نستطيع أن نقوله عن القاعدة ومن لف لفها؟ ما هو شكل الدولة التي ستنتج عن مقاومة يقودها تلاميذ الجزار الزرقاوي أو الظواهري أو جلاوزة صدام؟ مالذي نرجوه من نضال ضد الإحتلال يضطلع به جيش المهدي بقيادة الأمي العبقري الفذ مقتدى وجلاوزته والذي دشن حياته السياسية بجريمة قتل لعالم ديني تنويري جليل؟
كان الكثير من المعلقين الغربيين يكررون أثناء حكم صدام بأن كل شعب لديه الحاكم الذي يستحقه إشارة الى أن صداماً ونظامه النتن إنما هو نتاج عراقي صميم. وكنا نغضب ونزعل من هذا القول ولكن الآن فهمنا مدى صحة ما كانوا يقولون. إن السقوط الأخلاقي المروع للحضارة الإسلامية والعربية المعاصرة تجعل من المستحيل على أي إنسان شريف و مثقف و متحضر ومتمدن أن يكون له شعبية أو مريدين أو مؤيدين بين جماهير هذه الأمة. ويبدو أن من أهم مؤهلات السياسي العراقي والعربي اليوم هو أن يكون جلفاً متخلفاً طائفياً بذيئاً جاهلاً ضيق الأفق كارهاً للآخر يرعد ويزبد ويتوعد أعداءه بالويل والثبور.
وإلا فكيف نفسر الهستريا التي إنتابت العرب والمسلمين في رفض محاكمة ومن ثم إعدام جزار المسلمين الأكبر في القرن العشرين صدام حسين ؟ الهستريا التي إجتاحت المثقفين وأنصاف المثقفين والدهماء على حد سواء في طول وعرض بلدان العرب والمسلمين. هذه الشعوب التي تغط في سبات عميق لايحركها أو يهزها القتل الجماعي للمدنيين وقطع الرقاب على الإنترنت أو تهجير الملايين من بيوتهم بإسم الإسلام رأيناهم يخرجون الى الشوارع ويقيمون مجالس العزاء على شخص بدأ حياته الإجرامية بجريمة إغتيال قبل أن يبلغ سن العشرين. ولو كنا أمة سوية لكان مصير مجرم كهذا هو السجن المؤبد يقضي حياته فيه عقاباً على جرمه لا أن يسمح له أن يحكم شعباً من 25 مليون نسمة ل35 عاماً وأن يمارس القتل الجماعي لمليون إنسان ثم عندما يواجه القصاص عن جرائمه يرفع الى مصاف الشهداء والقديسين.
إن من علامات السقوط الحضاري والأخلاقي لهذه الأمة أن الإنسان الشريف والمثقف والمهذب والمتمدن الذي يحترم الآخر ويدافع عن حقوق الأقليات و الذي يأنف من السرقة و ينبذ العنف كطريقة لحل الخلافات لن يلاقي إحتراماً ولن يجد من ينتخبه أو من ينتمي الى حزبه. عندما يصبح مجرمو هذه الأمة ومعتوهيها هم قادتها المبجلين علينا أن نتوقف لنسأل أنفسنا للحظة: لماذا؟ مالذي حصل لمجتمعاتنا وبالذات للمجتمع العراقي حتى وصلنا الى هذه الدرجة من الإنحطاط؟
أما كفانا هذياناَ عن مؤمرات وهمية وتحليلات سخيفة وسقيمة عن الموساد وال سي آي أي و دورهما المزعوم في تحطيم مؤسساتنا ونخر مجتمعاتنا و خلق الفتن الطائفية والحروب الأهلية في بلداننا. أما آن الآوان أن نعي بإن الفتن الطائفية تخلق عندما يدعو الزرقاوي أو الظواهري الى محاربة الروافض وعندما يدعو أكثر من 40 عالم ديني سعودي الى محاربة الشيعة وعندما يدعو عراب الإرهاب الأكبر الشيخ يوسف القرضاوي علناً على فضائية الجزيرة الى قتل كل من يتعاون مع الإحتلال في العراق (ومن ضمنهم الشرطة والجيش والموظفين والمهندسين والمدرسين والأطباء الحكوميين ....الخ هكذا بالجملة كأنهم أغنام أو بهائم). إن الحروب الأهلية تخلق عندما يخرج علينا عالم ديني شيعي ليحلل دماء النواصب وأن يسكت عما تفعله عصابات الميليشيات من خطف وقتل وتهجير للمدنيين دون رادع أو عقاب.
إن علينا أن ندرك ونعي بإن ثقافة الكراهية والإجرام والعنف هي ثقافتنا وهي الجانب السيء والسلبي من موروثنا الحضاري الذي كان من الأجدر بنا أن نتفهمه خلال الثمانين سنة الماضية من تأريخ الدولة العراقية بدلاً من أن نحشو عقولنا وكتبنا المدرسية وصحفنا بالخزعبلات عن مؤمرات هذيانية وأخطار شيطانية صهيونية وإمبريالية. لم نعي ولم ندرك أن مصدر العلة والداء هو في موروثنا المرضي والذي يعشعش في بيوتنا وأدمغتنا فيجعلنا نفقد إنسانيتنا ونشارك في حمامات دم عبثية ضد أعداء مفترضين كانوا بالأمس القريب جيراننا أو أصدقاءنا أو زملاءنا في الدراسة أو العمل.
و بعد أن نتمادي في ساديتنا وبربريتنا نعلن على رؤوس الأشهاد وبكل صفاقة وخسة أن الصهاينة والصليبيين هم الذين يزرعون الفتنة الطائفية في العراق.
من المعروف أن المصاب بالمرض العقلي الذهاني الشديد غالباَ ما يفقد القدرة على الإدراك بأنه مصاب بالجنون. وهذا حال العرب والمسلمين (وبالأخص العراقيين) اليوم. فنحن نشجع وندعو ونبجل ونهلل ونصفق للعنف والبربرية و إنتهاك حقوق الآخر ومن ثم نلوم إسرائيل والموساد على ما آل اليه حالنا دون أدنى إدراك لعلاقة ما نقول وما نفعل بحالنا البائس.
فكيف نفسر حالة الفصام اللاواعي لدى العرب والمسلمين الذين هللوا وخرجوا الى الشوارع تعبيراً عن الفرح والتشفي بموت أكثر من 3000 مدني في 9 أيلول 2001 وفي نفس الوقت يعتقدون إعتقاداً جازماً أن الموساد الإسرائيلي هو الذي دبر هذه الجريمة؟ فإذا كانت هذه العملية مدبرة من قبل الموساد و سوف تعود بالفائدة على أعداء المسلمين كما يدعون فمالذي يجعلهم يهللون لها؟ والأدهى من هذا فإن المسلم والعربي العادي يفعل هذا دون أدنى وعي أو إدراك بالفصام الذي يعاني منه تماماً كحال المريض العقلي.
إن الفكر القومي العربي ووريثه quot;الإسلام السياسيquot; قد نجح في الهيمنة على الخطاب السياسي العربي والإسلامي وفي الهيمنة على الشارع العربي هيمنة شبه مطلقة. وقد ساعد في تحقيق ذلك أن لغة هؤلاء هي لغة العامة وهي لغة الموروث المرضي الذي يلعب بالعواطف ويثير جموع الكاسحة للجهلة وأنصاف الأميين. في حين لا يمتلك المثقف والليبرالي و التنويري غير منطق التحليل والجدل والأدلة المادية دون جعجعة وهياج وإثارة للغرائز.
فكيف إذن لهذه الأمة أن تقلع عن تمجيد الطغاة والمجرمين تارة بإسم المقاومة وأخرى بإسم محاربة الإمبريالية أو الصهيونية؟
وللحديث بقية.