(1)
الإمام السيوطى ت 911 هجرية ـ آخر العلماء المعتبرين فى نهاية العصر المملوكى، اشتهر بتأليف العشرات من الكتب التى كان يقوم فيها بتجميع ما قاله السابقون. وقد أفاد بعمله هذا حفظ بعض ما اندثر و ضاع من تراث العصر العباسى. ومن أهم كتبه(الاتقان فى علوم القرآن) الذى سار فيه على نسق القاضى أبى بكر الباقلانى المتوفى عام 403 هجرية، ولكن تفوق السيوطى عليه فى جمع معلومات أكثر قالها آخرون بعد الباقلانى. ولذلك يعد (ألاتقان فى علوم القرآن) للباقلانى أبرز ما كتب فى علوم القرآن فى عصر الاجتهاد العلمى للمسلمين، كما يعد(الاتقان فى علوم القرآن) للسيوطى آخر المكتوب فى هذا الباب والحاوى لكل ما فيه من مساوىء ومحاسن.
(2)
المفروض فى(علوم القرآن) ان تزيد المسلم معرفة بالقرآن وايمانا به، ولكن الواقع شىء آخر.
إن(علوم القرآن) فيها اجتهاد عقلى لا بأس به، ولكن فيها أفظع أنواع الطعن فى القرآن الكريم. والملاحظ أن معظم مواضع الطعن فى القرآن تاتى عبر أحاديث منسوبة للنبى محمد عليه السلام، بينما تأتى النواحى الايجابية فى أغلبها مجرد آراء منسوبة لأصحابها تحوى الكثير من الاجتهاد المحمود حتى لو اختلفت معه. وهذا يؤكد أن من أراد الطعن فى القرآن الكريم لم تكن له حجة عقلية فلجأ الى أسهل السبل وهى أن ينسب ما يقول الى النبى محمد فى صورة حديث، فان لم يتيسر فينسبه الى واحد من كبار الصحابة أو علمائهم مثل عمر أو ابن عباس.
(3)
الأساس الذى نبع منه الطعن فى القرآن هو مقولة أن النبى محمدا عليه السلام كان أميا أى لا يقرأ ولا يكتب، وأن كتابة الوحى قام بها بعض الصحابة، وأن جمع القرآن فى مصحف قام به أبو بكر ثم أتمه عثمان. وكل ذلك إفك كاذب فندناه فى بحوت منشورة فى تسعينيات القرن الماضى، وأعيد نشرها فى موقعنا(أهل القرآن). وفيها أثبتنا بالقرآن الكريم أن النبى محمد عليه السلام كان أميا وأن العرب كانوا أميين بمعنى أنهم لم يكونوا من(أهل الكتاب) وأن النبى محمد كان يقرأ ويكتب، وأنه هو الذى كتب الوحى بنفسه، وكان يعينه بعض أصحابه، وأنه الذى جمع القرآن بنفسه، وأن ماقام به أبو بكر هو كتابة نسخ من القرآن المكتوب بخط النبى محمد فى(مصحف) وأن ما قام به عثمان هو إخضاع كتابة المصاحف لنوعية واحدة من الكتابة هى التى لا يزال عليها كتابة المصحف حتى الآن، والمعروفة حتى اليوم بالخط العثمانى نسبة الى عثمان.
من ذلك الافك القائل أن هناك كتبة للوحى وأن جمع القرآن فى عهد أبى بكر ـ أشاع أولئك الرواة الأفاكون أقاويل تطعن فى القرآن وتشكك فى آياته و سوره وتناقض قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر 9) وقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)(فصلت 41 ـ 42) وقوله تعالى عن جمع القرآن فى حياة النبى محمد عليه السلام (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(القيامة 17)
وللتدليل على هذا الافك ـ الذى حمل عنوان علوم القرآن ـ فاننا نستشهد ببعض ما رواه السيوطى فى كتابه(الاتقان فى علوم القرآن) المشار اليه.
(4)
عقد السيوطى فصلا بعنوان (النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه) جمع فيه معظم الروايات المختلفة عن جمع القرآن فى عهد ابى بكر، وهى روايات إختلقوها كذبا فى العصر العباسى. وكانت كل رواية ـ مع اختلافها و تناقضها مع مثيلاتها ومع القرآن و العقل ـ لها سند يصلها بالصحابة الذين ماتوا دون أن يعلموا شيئا عن ذلك الافك الذى ألصقوه بهم بعد موتهم بقرون.
وسنورد بعضها مع حذف السند اختصارا :
( قال الديرعاقولي في فوائدهrlm;:rlm;(قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيءrlm;.rlm;)..و قال عكرمة(لما كان بعد بيعة أبي بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته فقيل لأبي بكرrlm;:rlm; قد كره بيعتك، فأرسل إليه فقالrlm;:rlm; أكرهت بيعتي؟ قالrlm;:rlm; لا والله. قالrlm;:rlm; ما أقعدك عني؟ قالrlm;:rlm; رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه..rlm;.rlm; قالrlm;:rlm; لواجتمعت الأنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا) أى ان الذى جمع هنا هو(على) وأنه فعل ذلك لأنه وجد ـ بزعمهم ـ من يزيد فى القرآن أى ينتحل كلاما يجعله ضمن القرآن فاضطر (على) وحده للقيام بهذه المهمة دون أن يستشير أبا بكر.. هذا مع وجود روايات أخرى مشهورة تجعل أبابكر ـ وبمشورة من عمر ـ يكلف زيد بن ثابت بجمع القرآن. والواضح وجود حرب خفية بين السطور بين الشيعة و السنة، كل منهما ينسب الفضل لعلى أو لأبى بكر وعمر ـ فى اسطورة جمع القرآن بعد وفاة النبى محمد عليه السلام، وقد تناسوا أن تلك هى مهمة النبى محمد وكان مستحيلا أن يموت دون إتمام البلاغ بكتابة القرآن و تدوينه بنفسه.
ويأتى السيوطى برواية أخرى تقولrlm;:rlm;( أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى جمعه، فجمعه ثم ائتمروا ما يسمونه فقال بعضهمrlm;:rlm; سموه السفر قالrlm;:rlm; ذلك تسمية اليهود فكرهوه فقالrlm;:rlm; رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف)أى أن سالم مولى أبى حذيفة هو الآخر أقسم ألا يرتدى ثيابه حتى يجمع القرآن، فاذا كانت هذه المهمة يمكن الانتهاء منها دون رداء فكيف تركها النبى لفلان وعلان ؟ والمضحك هنا أنهم استعاروا اسم المصحف من الحبشة، مع أن كلمة المصحف عربية وليست حبشية !!
أما المواد التى جمعوا منها آيات القرآن فقد اختلفوا فيها كالعادة، يقول السيوطى :(وقد تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخافrlm;.rlm; في روايةrlm;:rlm; والرقاعrlm;.rlm; وفي أخرىrlm;:rlm; وقطع الأديمrlm;.rlm; وفي أخرىrlm;:rlm; والاكتافrlm;.rlm; وفي أخرىrlm;:rlm; والأضلاعrlm;.rlm; وفي أخرىrlm;:rlm; والأقتابrlm;.rlm; والعسب جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الحوص ويكتبون في الطرف العريضrlm;.rlm; واللختاف.. وهي الحجارة الدقاق.. والرقاع جمع رقعة وقد تكون من جلد أوورق أوكاغدrlm;.rlm; والأكتاف جمع كتف وهوالعظم الذي للبعير أوالشاة كانوا إذا جف كتبوا عليهrlm;.rlm; والأقتاب جمع قتب وهوالخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليهrlm;.rlm;)
واختلفت الروايات أيضا فى ترتيب ألايات القرآنية و سور القرآن ؛ هل هو توقيفى أى أنه من عمل النبى محمد عليه السلام بوحى من الله ـ وهو الرأى الصحيح، أم هو بعمل الصحابة وثمرة لاختلافاتهم. وننقل بعض ما قاله السيوطى :(أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقالrlm;:rlm; أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما فقال عمرrlm;:rlm; وأنا أشهد لقد سمعتهما ثم قالrlm;:rlm; لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرهاrlm;.rlm; قال ابن حجرrlm;:rlm; ظاهر هذا أنهم كانوا يؤلفون آيات السور باجتهادهم وسائر الأخبار تدل على أنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بتوقيفrlm;.rlm;..)
وفى عدد الايات القرآنية فى كل سورة اختلفوا فيها بسبب اختلافهم فى(البسملة) أى(بسم الله الرحمن الرحيم) هل تعد ضمن عدد الايات أم لا. وأن كان هذا اختلافا هينا فان الأفظع تلك الروايات التى تزعم أن هناك سورا وآيات من القرآن الكريم تم حذفها. تحت عنوان(النوع التاسع عشر في عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه) يقول السيوطى يورد اختلافاتهم :(أما سوره فمائة وأربع عشرة سورة بإجماع من يعتد به وقيل وثلاث عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدةrlm;.rlm; أخرج أبو الشيخ عن أبي زروق قالrlm;:rlm; الأنفال وبراءة سورة واحدةrlm;.rlm; وأخرج عن أبي رجاء قالrlm;:rlm; سألت الحسن عن الأنفال وبراءة سورتان أم سورة قالrlm;:rlm; سورتان).ثم ينقل السيوطى رواية يزعم فيها أن الامام مالك قال عن سورة براءة(ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولهاrlm;.rlm;) أى كانت سورة التوبة أو براءة تساوى فى طولها سورة البقرة ـ بزعمهم ـ أى أنهم حذفوا من سورة التوبة 157 آية قرآنية.
ويقول السيوطى(وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين) أى ان ابن مسعود فى زعمهم لم يعترف بسورتى الفلق و الناس. ويقول(وفي مصحف أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين واللهم إنا نستعينك واللهم إياك نعبد وتركهن ابن مسعودrlm;.rlm;) أى أن أبى بن كعب زاد فى القرآن (واللهم إنا نستعينك واللهم إياك نعبد) rlm;.rlm;
(5)
ويأتى السيوطى برواية عن الطبرانى أشهر رواة الحديث فى العصر العباسى الثانى. يقول السيوطى :(وأخرج الطبراني في الدعاء من طريق ابن عباد ابن يعقوب الأسدي عن يحيى بن يعلي الأسلمي عن ابن لهيعة عن أبي هريرة عن عبد الله بن زرير الغافقي قالrlm;:rlm; قال لي عبد الملك بن مروانrlm;:rlm; لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب إلا أنك أعرابي جاف فقلتrlm;:rlm; والله لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علمهما إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمهما أنت ولا أبوكrlm;.rlm;)
المستفاد من هذه الرواية الكاذبة أن ذلك الشخص المجهول عبد الله بن زرير الغافقي اتهمه الخليفة عبد الملك بن مروان بأنه وأباه يحبان(أبا تراب) أى على بن أبى طالب. ويرد ذلك الشخص مواجها عبد الملك بن مروان قائلا أن على بن أبى طالب قد علمه هو وأباه سورتين من القرآن لا يعلمهما عبد الملك ولا أبوه مروان. أى أن النبى محمدا عليه السلام علّم ابن عمه عليا بن أبى طالب سورتين من القرآن الكريم ـ سرا ـ وأن عليا قام بتلقين هاتين السورتين للأخ عبد الله بن زرير الغافقي. وتم ذلك أيضا سرا. وبالتالى فان النبى محمدا عليه السلام لم يبلغ كل الرسالة، بل ترك بعضها ليحكيه سرا لابن عمه الشقيق ثم يقوم ابن عمه الشقيق بتعليم هذا السر الخاص للسيد المحترم عبد الله بن زرير الغافقي. و السيد المحترم اياه يجابه الخليفة الأموى سفاك الدماء بهذا مفتخرا عليه وعلى ابيه، ثم يظل حيا يحكى الحكاية لأبى هريرة مفتخرا بها !!.. هذا مع أن حقائق التاريخ تؤكد أن عبد الملك بن مروان كان سفاكا للدماء و قدد هدد علنا بالقتل من يقول له(اتق الله)، وهو الذى سلط الحجاج على المسلمين فى الحجاز ثم العراق يقتلهم لمجرد الظن والشك حتى ألجم الأفواه. ولكن الرواية المضحكة لذلك الكذاب الجاهل(الطبرانى) تجعل فاه ذلك الأخ الجليل المجهول عبد الله بن زرير الغافقي يتحدى عبد الملك بن مروان بما يكره فى حقه وحق أبيه.
جهل الطبرانى يتجلى أيضا فى اختراعه السند لهذه الرواية الكاذبة. فقد زعم أنه رواها عن طريق ابن عباد ابن يعقوب الأسدي عن يحيى بن يعلي الأسلمي عن ابن لهيعة عن أبي هريرة عن عبد الله بن زرير الغافقي. أى جعل أبا هريرة الصحابى المشهور برواية الأحاديث يروى عن أحد التابعين وهو الأخ المحترم عبد الله بن زرير الغافقي. وبالتالى لا بد أن يكون أبوهريرة حيا فى ذلك الوقت الذى جرت فيه المواجهة القولية بين الأخ المحترم عبد الله بن زرير الغافقي(لا فض فوه) و الخليفة عبد الملك بن مروان. ولكن لسوء الحظ فقد مات أبو هريرة قبل هذا العصر،فى خلافة معاوية. يقول ابن سعد ـ وهو من أقدم المصادر التاريخية وأوثقها عن أبى هريرة (كتب الوليد بن عتبة(والى المدينة) الى معاوية يخبره بموت أبي هريرة، فكتب إليه: أنظر من ترك فادفع الى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسن جوارهم وافعل إليهم معروفا، فإنه كان ممن نصر عثمان وكان معه في الدار فرحمه الله...وقد روى أبو هريرة عن أبي بكر وعمر وتوفي سنة تسع وخمسين في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان) أى كان أبو هريرة من حزب الأمويين وتولى لهم إمارة المدينة، وعندما مات أحسن معاوية لذريته. و حتى لو عاش وأدرك عهد الخليفة ألأموى عبد الملك بن مروان فانه لم يكن ليروىعن خصم للأمويين. مات أبوهريرة فى خلافة معاوية،وتوالت الأحداث بعده : مات معاوية وتولى يزيد ثم مات يزيد وتولى ابنه معاوية الثانى ثم اعتزل معاوية الثانى فدخل المسلمون فى حرب اهلية كان من قوادها مروان بن الحكم الذى تولى الخلافة ليواجه عبد الله بن الزبير، و بعد موت مروان تولى ابنه عبد الملك بن مروان عام 65 فأعاد تاسيس الدولة الأموية بالحديد والنار.. وبالحجاج وما أدراك ما الحجاج..جهل الطبرانى كل ذلك التاريخ فافترى هذه الرواية لمجرد أن يطعن فى القرآن ويثبت أن هناك سورتين من القرآن ليستا فى المصحف.
ويطول بنا الوقت لو توقفنا مع كل رواية من تلك الروايات بالتمحيص و النقد، ولكنها جناية الأحاديث على القرآن والاسلام.ولولا تلك ألأحاديث لكانت علوم القرآن الكريم جهدا عقليا ايجابيا نأخذ منه ونرد دون الكذب على الله تعالى ورسوله.
(6)
ونسأل : لماذا تجاهلت (علوم القرآن) الاشارات العلمية التى تاتى الآن مكتشفات الغرب مطابقة لها ؟ والاجابة لأنهم ركزوا على الطعن فى الاسلام بما يسمى بالحديث و علوم القرآن.ولهذا فان موقع(أهل القرآن) http://www.ahl-alquran.com/arabic/main.php
سيبدأ اجتهادا جديدا فى تجلية علوم القرآن بمنهج علمى يقوم على تدبر آيات القرآن الكريم وتحديد مصطلحاته واستخلاص إشاراته النافعة. سيبدأ الموقع ببابين فى علوم القرآن هما(القاموس القرآنى) و(القصص القرآنى) ثم تتلوهما أبواب أخرى.
وكالعادة فان كل ما يكتبه الموقع معروض للنقاش والتعليق، فنحن جميعا أمام كتاب الله تعالى تلاميذ نتعلم. ولم يوجد من البشر من يحيط بكتاب الله تعالى ـ علما.
(7)
القرآن الكريم كتاب لم نقرأه بعد.. ولم نقدره حق قدره.
التعليقات