quot;خيال المآتةquot; لمن لا يعرفه هيكل من عصي يكتسي بجلباب، ليكون على هيئة شخص فارد ذراعيه، ينصبه الفلاحون وسط الحقول، لكي تداعبه الريح فيخيف الطيور التي تلتقط الثمار أو الحب المزروع في الأرض أو النباتات في أولى مراحل نموها، لكن ذات الفلاح الذي ابتكر هذه الآلية لحماية مزروعاته، يدرك عدم جدواها، فاتخذ من quot;خيال المآتةquot; اصطلاحاً، يشير به إلى انعدام الجدوى والفاعلية، لكن المدهش أنه مستمر في استخدامها، ربما لجدوى الأمر من الناحية النفسية، حيث يختار أن يوهم نفسه بأنه أقام حارساً على ثروته المحصولية، فهذا بالنسبة له وضع أكثر ارتياحاً واطمئناناً من البقاء بلا حارس، لكن النهج المتمثل في الارتكان إلى quot;خيال المآتةquot; لا يبدو أنه يقتصر في حياة المصري (وربما الإنسان الشرقي بعامة) على قضية المزروعات والطيور، ذلك أننا نستطيع ببعض التأمل اكتشاف العديد من quot;خيالات المآتةquot;، يحتل بعضها الصدارة، ويحوز التكريم والتبجيل، في ثقافة المصريين حتى بداية الألفية الثالثة!
مثالنا في هذه السطور ما يدور من مناقشات بين مثقفي مصر، حول التعديلات الدستور الجارية، والتي يحتل البرلمان وصلاحياته وتكوينه حيزاً أساسياً فيها، ومن الطبيعي أن تتجه أنظار دعاة التحديث والاستنارة إلى المكونات الأضعف في المجتمع المصري، والمعرضة دائماً لانقضاض الطيور الجارحة، وتتطلب بالتالي حماية خاصة، هو توجه محمود ولا ريب، فلدينا في المجتمع المصري المرأة والأقباط على رأس قائمة المكونات الأضعف، وقد يثور الجدل والخلاف بين أطراف عديدة، إن كانا منتقصي الحقوق من عدمه، فالبعض يرى أن المرأة في مصر مكرمة كرامة لا تتوفر لكل نساء العالم، ويرى هذا البعض ذاته أن الأقباط في نعيم مقيم، بينما يرى البعض الآخر (الذي ينتمي إليه كاتب هذه السطور) أن الحال على العكس تماماً، لكن من المؤكد أن أحداً لا يماري، في أن هذين المكونين المصريين (المرأة والأقباط) متواجدان عند القاعدة، بنسبة 50% للمرأة و 10 ndash; 15% للأقباط، في حين أن تمثيلهما عند القمة (في المستوى القيادي) يكاد يكون معدوماً أو رمزياً، وهو الوضع غير المقبول في حد ذاته، كما أنه يرجح زيف دعاوى أن أحوال هذين المكونين على أحسن ما يرام.
هي إذن مشكلة سياسية واجتماعية حقيقية، تبحث عن حل لابد وأن يكون حقيقياً هو الآخر، لكن أن يقودنا الاستسهال أو العجز، أو إدمان النهج المصري في خداع الذات وتخديرها، باللجوء إلى حيلة quot;خيال المآتةquot;، فإن هذا لا يعني فقط بقاء الإشكالية كما هي، لكنه أيضاً يعني القيام بالتستر عليها، والتظاهر بأنه لا مشاكل ولا اختلال لدينا، quot;خيال المآتةquot; الذي نقصده هو النية لتخصيص كوتة للمرأة في انتخابات مجلس الشعب، ومطالبات بعض المستنيرين (بحسن نية) بتخصيص كوتة مماثلة للأقباط، ونحن نرى أن هذا التوجه غير مجد وغير مقبول جملة وتفصيلاً.
إذا نظرنا إلى الكوتة المقترحة بوصفها دعماً مؤقتاً، كفيلاً بحماية وتقوية المكون الضعيف، ريثما يشتد ويستقيم عوده، فإن الواقع العملي ndash;في مصرنا العزيزة على الأقل- يقول بفساد هذا الرأي، بل ويؤدي إلى عكس المستهدف منه، فأي كيان ضعيف لابد وأن يكتشف المدقق في أحواله، أن عوامل ضعفه بعضها خارجي مفروض عليه، ويحاسب عليه الوسط مصدر الضغط، والبعض الآخر داخلي لعيوب في هذا الكيان ذاته، ويسأل وحده عنها، وقد تختلف النسبة بين حجم وتأثير العوامل الخارجية والداخلية باختلاف الحالات، لكن تجاهل أو إنكار أيهما بمثابة قصور في الرؤية يفضي إلى فشل أي محاولة للعلاج، مثال الدعم والحماية التي حظيت بها شركات القطاع العام طوال نصف القرن الماضي، إذ لم تؤد إلى تطور أداء وهياكل تلك الشركات، بل تدهورت أحوالها، نفس هذا يقال عن تخصيص 50% على الأقل من مقاعد مجلس الشعب للعمال والفلاحين، فلم يساهم هذا التمييز الإيجابي في دفع العمال والفلاحين إلى حيازة مقومات معالجة مشاكل الوطن، بل كان هذا الامتياز مجرد نافذة يقفز منها إلى المجلس العديد من عديمي الكفاءة.
هناك تقصير واضح من المرأة ومن الأقباط في ممارسة النشاط الاجتماعي والسياسي، كما يلاحظ أن المرأة المصرية في الأغلب هي التي تقاوم التغيير باتجاه إنصاف المرأة، فهي تردد في هذا الشأن كالببغاء ما تشبعت به في ثقافة ذكورية شمولية، بل وتستشعر نفسها في المكانة الأدنى، التي أقنعها الرجل أنها فيها، وتصعيد هذه النوعية من المرأة إلى مجلس الشعب سيؤدي إلى نتائج عكسية في غير صالح المرأة، في حين أن المقاربة الصحيحة هي البحث عن السبل الكفيلة بتطوير وتحديث ثقافة المجتمع، لتتماشى مع روح العصر، ومع مبادئ حقوق الإنسان، عندها يكون لدينا رجال ونساء يسعون إلى الانفتاح والحداثة والمساواة.
إذا تأملنا التاريخ وأحوال الأمم التي تحررت جميع مكوناتها (أغلبية وأقلية)، سنجد أن تحرر الأقلية أو المكون الضعيف كان دائماً رهناً بتطور فكر وقناعات الأغلبية أو الجانب الأقوى، فثورة سبارتاكوس في العصر الروماني لم تؤد إلى تحرير العبيد، بل إلى المزيد من المذابح والقهر لهم، ولكن الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن قائد الشمال الأمريكي المستنير هو الذي نجح في تحرير العبيد في أمريكا، وهنا في مصر لن تتحرر المرأة، وتعامل على أنها إنسان كامل، إلا إذا اقتنع الرجل بهذا وحارب من أجله، أيضاً الأقباط قضيتهم رهن باستنارة إخوانهم من المسلمين، الذين يعتنقون مبادئ الحرية والمساواة، فبدون إحساس الأغلبية بآلام الأقلية لا يمكن إحراز أي تقدم، لا على مستوى حقوق الأقليات، ولا على مستوى تحديث المجتمع كله.
لا نعني بهذا أن تتخذ الأقليات مواقف سلبية بانتظار أن يأتي إليها الفرج من تلقاء ذاته أو من الآخر، لكننا نقول بضرورة تفعيل المرأة والأقباط لدورهم في العمل العام، وأن إصرارهم على التواجد الفعال في جميع المواقع والنشاطات، هو الكفيل بإقناع الرجل بجدارة المرأة، وإقناع المسلم بجدارة القبطي، وبجدوى التكاتف معه للرقي بالوطن، بما يؤدي لخلق حالة مجتمعية صحية وبصورة طبيعية، ودون ما حاجة إلى تشريعات تمييز إيجابي، تكون بمثابة مكافأة وحافز لمزيد من تكاسل المتكاسلين، سواء في جانب المرأة أو الأقباط.
هنالك أمر آخر جدير بالانتباه، هو أن تشريعات التمييز الإيجابي هذه، والتي تحدد نسباً معينة للمرأة والأقباط في مجلس الشعب، تؤدي لوصول عناصر غير فعالة في الساحة الاجتماعية والسياسية، وبالتالي تؤدي إلى مزيد من التدهور في مستوى أداء مجلس الشعب، الذي لا يحتمل المزيد من الانخفاض في أدائه، فنحن نستطيع أن نجد في أوساط المرأة والأقباط كفاءات علمية على أعلى مستوى، لكن هذا وحده لا يكفي ليكون لدينا ممثل صالح في مجلس الشعب، كما لا يكفي ليكون لدينا وزير كفء، فحكم الكفاءات العلمية (التكنوقراط) لا يناسب مرحلة نسعى فيها لإصلاح سياسي واجتماعي وثقافي، فالتكنوقراط مكانهم المواقع التنفيذية، التي يكونون هم وحدهم الصالحون لها لتحقيق أفضل أداء علمي، أما القيادة السياسية ونيابة مجلس الشعب فأمر آخر مختلف تماماً.
كيف نلزم الأحزاب المتقدمة لانتخابات مجلس الشعب بنظام القائمة بأن تضم على قوائمها المرأة والأقباط بنسب محددة (كما تدور المناقشات)، في حين أن المرأة والأقباط غير موجودون في قواعد تلك الأحزاب بنفس النسبة؟! هل يكون هذا أمراً منطقياً، أو يمكن أن يرجى منه أي خير؟! في المقابل إذا تخلت المرأة والأقباط عن حالة السلبية والغياب التي هم غارقون فيها حالياً، وانضموا إلى قواعد الأحزاب وأحيوها من مواتها السريري الحالي، ألن يكون من المتوقع تواجدهم على قوائم تلك الأحزاب بصورة تلقائية وطبيعية، دون ما حاجة إلى نصوص دستورية تضر بأكثر مما تنفع؟!
الإصلاح الدستوري والتشريعي مطلوب في مجال إنصاف وتمكين المرأة والأقباط وسائر مكونات المجتمع، مثل البهائيين والشيعة وغيرهم، لكن ليس بمنهج التمييز الإيجابي، بمنح مزايا تفرض تعسفياً على المجتمع والواقع المعاش، وتعصف في الوقت نفسه بمبدأ المساواة التامة بين جميع المواطنين، وهو المبدأ الذي إن تاه عنا، أو تهنا عنه، لن نستطيع أن نخطو خطوة واحدة للأمام، لكن الإصلاح الدستوري والتشريعي مطلوب لإزالة التمييز السلبي، فالمادة الثانية من الدستور بوضعها الحالي تمييز سلبي ضد الأقباط وسائر فئات المجتمع من غير المسامين، علاوة بالطبع على خطورتها على الوطن كله، بما تتيحه من تسلل دعاة السلطة من تيار التأسلم السياسي للسيطرة على المجتمع، والعودة بمسيرة الوطن الحضارية قروناً عديدة للوراء، بما يمثله هذا من خطورة على المرأة بالعودة بها إلى عصر الحريم.
المادة 19 من الدستور تنص على جعل الدين مادة أساسية في جميع مراحل التعليم يؤدي تطبيقها إلى تمييز سلبي ضد المسلمين غير السنة، كذا ضد من لا يدينون بالإسلام والمسيحية، سواء اليهود أو البهائيين، أو طوائف كثيرة في المسيحية مثل شهود يهوه والأقباط الأدفندست، بالإضافة إلى التمييز ضد من لا يؤمنون بأي دين، وهو الأمر الذي يحاسبهم عليه الله وحده في الحياة الآخرة، لكن لا ينبغي أن يكون سبباً للتضييق عليهم في ممارستهم لمواطنتهم، فالله خلق الأرض والشمس والقمر لجميع مخلوقاته، وليس للمؤمنين به وحدهم، أو لفئة محدودة من المؤمنين.
من يبحث عن الإصلاح والإنصاف الحقيقي ndash;وليس المظهري التجميلي- أمامه مجالات كثيرة تحتاج لإزالة التمييز السلبي سواء في التشريعات، وفي التطبيقات في سائر دواوين الحكومة ووسائل إعلامها، لكن أن نترك القاعدة متجمدة أو بالأصح متعفنة، لكي نزين القمة بنواب في مجلس الشعب مفروضين غصباً وبلا جدارة، ولا يستندون لإرادة جماهيرية حقيقية وفاعلة، فهذا أمر لا يمكن أن يندرج ضمن مسيرة الإصلاح، التي علينا أن نبدها اليوم قبل غد، إن لم يكن أوان الإصلاح قد فات فعلاً!!
التعليقات