النقاش الدائر الآن في الدوائر السياسية والثقافية المصرية حول التعديلات الدستورية، وبالذات الجدل الأكثر سخونة حول المادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أن دين الدولة الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، هو ظاهرة صحية ولا ريب، خاصة في مجتمع اعتاد دفن رأسه في الرمال، وعدم مواجهة مشاكله بصراحة وشجاعة، ورائع هو موقف المثقفين والمفكرين المستنيرين من المسلمين، أن يبرزوا في مقاربتهم لهذه المادة ما يترتب عليها من تمييز ضد الأقباط وسائر غير المسلمين من المواطنين، وهو ما شجع العديد من مفكري ومثقفي الأقباط على التصدي أيضاً لذات الموضوع بذات الوضوح والصراحة، وإن كان العديد من الرموز الذين اختارهم النظام الحاكم لتمثيل الأقباط، ظلوا يراوحون مكانهم الذي اعتادوه، وهو الحديث باسم الأقباط بترديد كلمات ومشيئة النظام، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
ينتمي محتوى هذه المادة لعصور مضت، عصور الكيانات التي تعتمد على الانتماء الديني والقبلي، وهي ما تجاوزته مسيرة الحضارة الإنسانية منذ قرون، لتدخل عصر الدولة الوطنية، التي تجمع على قدم المساواة مختلف الانتماءات العرقية والدينية، ثم تدخل البشرية إلى مرحلة لاحقة، نحيا جميعاً في ظلها ولو رغماً عنا، هي مرحلة العولمة، والتي تذوب فيها الحدود الجغرافية والقانونية والاقتصادية والثقافية، ليبقى الهامش السياسي وحده، يؤدي دوراً يتضاءل مع الأيام، لصالح الإنسان الفرد أولاً، ومن ثم بالتبعية لصالح الإنسانية جمعاء، لكننا كشأننا نرفض الإحساس بوقع الزمن، لنظل نحيا هانئين مطمئنين في كهوفنا الأزلية.
لكن المقاربة الشائعة لمحتوى المادة الثانية من الدستور، باعتبارها قضية تمييز ضد قطاع من المواطنين غير المسلمين، هي مقاربة رغم أهميتها ونبلها، تصرف النظر ولو جزئياً عن الخطورة الأساسية المترتبة على التمسك بهذه المادة، على جميع أبناء الوطن بغض النظر عن انتمائهم الديني.
مسألة المرجعية الدينية لدولة أو حزب، هل حقاً تختلف عن القول بدولة دينية؟
هل يجوز الحديث عن دولة أو حزب مدني بمرجعية دينية؟
هل يجوز الحديث عن دولة أو حزب ديموقراطي ذي مرجعية دينية؟
القول بدولة دينية هو ذاته القول بدولة ذات مرجعية دينية، فالعبارة الثانية مجرد شرح لمعنى العبارة الأولى ليس أكثر، فلا نكاد نعرف في التاريخ دولة دينية قام فيها رجال الدين بمباشرة الحكم بأنفسهم، فهم يفضلون دائماً التظاهر بالوقوف في الصف الثاني، خلف حاكم مدني أو عسكري، ليقوموا هم إما بدور الموجه الأساسي له، أو بدور المبرر لممارساته بمنحها صبغة مقدسة، ويحقق المركز الثاني (ظاهرياً) لرجال الدين ميزة التحكم والهيمنة أولاً، والنأي عن المحاسبة على النتائج العملية لتوجيهاتهم ثانياً، فإذا ما تضررت الجماهير وساءت أحوالها، فإن تذمرها يتجه تلقائياً للحاكم المتصدر للصورة، ويظل رجال الدين في موقع من يتم اللجوء إليه والاستعانة به لرفع الظلم ودرء المفاسد!!
هكذا كانت أوروبا في العصر الوسيط، وهكذا كانت دولة الخلافة الأموية والعباسية، وهكذا أيضاً الدولة المصرية الحديثة فيما بعد المرحلة الناصرية وحتى الآن، فرغم أن دستور الدولة المصرية وقوانينها ونظمها علمانية مدنية، كما يصفها فقهاء الدستور والقانون، إلا أن المرجعية الدينية حاضرة في الممارسة العملية، وبقوة تجعلنا مطمئنين إلى تصنيفها كدولة دينية، فعندما يتم استفتاء رجال الدين في كل صغيرة وكبيرة، بداية بداية من معاهدة السلام مع إسرائيل، إلى ضريبة التركات وقوانين الطلاق والخلع، وزي النساء وعرض الأفلام العالمية محلياً، وما يصدر من كتب وأفلام وأعمال درامية، بل وأبحاث علمية جامعية، بالإجمال ليس ثمة أمر من أمور الحياة إلا ويتم استفتاء رجال الدين فيه، سواء كان رجال الدين الإسلامي أم المسيحي، في وضع كهذا نعيشه جميعاً، من العبث أن نلف وندور حول أنفسنا، محاولين الفصل أو التفرقة بين القول بدولة دينية، والقول بدولة أو حزب بمرجعية دينية، وبنفس القدر من العبث نرى محاولات الارتكان إلى بنود مدنية أو علمانية في الدستور، للحد من هيمنة محتوى المادة الثانية، فالواقع الذي نعيشه لا يحتاج لمزيد من الشرح، للتدليل على أن تلك المادة وحدها كفيلة بجب كل ما عداها، وهو ما حدث خلال الأربعة عقود الماضية، الأمر المرشح للتفاقم في المرحلة المقبلة، مع تزايد ضغوط تيارات الإسلام السياسي في المنطقة المحيطة عموماً، ومع استفحال quot;جماعة الإخوان المحظورةquot; في المجتمع المصري، كنتيجة مباشرة لإستراتيجية وتكتيكات النظام في التعامل معها.
لكن ماذا لنا على المرجعية الدينية، ولماذا نتخذ موقفاً مضاداً لها؟
إجابة هذا السؤال أكبر وأعقد من أن يجمعها مقال، وسنكتفي هنا بثلاث نقاط:
middot; تقتضي الديموقراطية، التي نكاد نجمع على تبنيها، أن تسند مهمة تشريع القوانين لمجلس منتخب مباشرة من الشعب، باعتبار الشعب هو مصدر السلطات جميعاً، بما فيها السلطة التشريعية، ليقوم المجلس النيابي بسن القوانين، مستعيناً بخبراء القانون من بين صفوفه أو من خارجها، وبهذا تأتي القوانين ممثلة لإرادة الأمة، لكن في حالة النص والارتكان إلى مرجعية دينية، فإن رجال الدين (الفقهاء) سيكون لهم القول الفصل، سواء في صياغة مشروعات القوانين، أو في رفض قوانين من الأساس، وفرض قوانين أخرى بذريعة ضرورة الالتزام بالمرجعية الدينية، من وجهة نظر رجال الدين بالطبع، ولابد في هذه الحالة أن يرضخ لها نواب الشعب، وإلا عدوا خارجين على الدستور الذي أجمعت عليه الأمة، التي لم يخبرها أحد قبل إجماعها على تفاصيل ما هي مقبلة على الإجماع عليه، بل ما طرح عليها مجرد عموميات وشعارات براقة، تدغدغ المشاعر الدينية لشعب مؤمن بطبيعته، علاوة بالطبع على سيف التكفير الذي سيكون مشهراً في وجه كل من يتجاسر من نواب الشعب، على الاعتراض على مشيئة سادتنا رجال الدين.
بهذا تكون quot;المرجعية الدينيةquot; قد نسفت مبدأ التمثيل النيابي، ومعه مبدأ أن الأمة مصدر السلطات، ونكون قد عدنا لمبدأ الحاكمية، التي لن تكون لله، ولكن في الحقيقة لمن يدعون أنهم يتحدثون باسمه تعالى، ويكون القول بديموقراطية ذات مرجعية دينية قولاً متناقضاً منطقياً، كقول quot; إناء أبيض لونه أسودquot;!!
middot; حين يتحدد للدولة دين ومرجعية دينية، فهذا يعني أن أداء كافة مؤسسات الدولة يجب أن يكون موجهاً لتحقيق ذلك، وعندما يحتل ترتيب هذا الأمر السطر الثاني في الدستور (أي المادة الثانية)، فإن هذا يجعل له الأولوية والسيادة على كل ما يلي ذلك في الدستور من بنود وقضايا، وهذا معناه نظرياً وعملياً أن تتراجع المصالح العملية للشعب في جميع مناحي الحياة الأرضية المادية، لتخلي مكانها للمهمة المقدسة، وهي التطابق مع المرجعية الدينية المقدسة بطبيعتها، ويتم هذا بالطبع وفق الشروط والرؤى التي يفرضها الفقهاء ورجال الدين، ويكون تحقيق المصلحة في أحسن الأحوال مرتهناً بموافقة وسماحية رجال الدين وتسامحهم، وقد عهدنا من يميلون منهم للتشدد إذا ما جنوا من تشددهم سلطان أو ثروة، ومن يميلون للتسامح ومسايرة الأحوال، إذا ما كانت عصا الحاكم غليظة، أو أبواب خزائنه مشرعة أمامهم!!
بهذا النهج يمكن أن يكون لدينا حكومة فعالة وناجحة في تطبيق المرجعية الدينية وتحقيق تدين الدولة، لكنها فاشلة في تدبير حياة مواطنيها، وأمامنا مثال فج لحكومة حماس الفلسطينية (الفرع الفلسطيني من جماعة الإخوان المحظورة)، التي تدعي تمسكها بالثوابت الدينية، في حين أن الشعب يتضور جوعاً ويئن مرضاً وبؤساً، وماذا سيكون موقفنا في الحالة المقابلة، أن تنجح حكومة في تحقيق الرخاء لشعبها، لكنها تفشل في التطابق مع المرجعية الدينية؟
سيكون علينا أن نشترط أن تحقق الحكومة الأمرين معاً، وإن قلنا بهذا، فهل سنكون كمن يطلب المستحيل بعينه، مادمنا نربط بين الثابت الإيماني السماوي، وبين المتغير العملي الأرضي؟!
middot; الشعوب التي تقيد نفسها بمفاهيم وتفسيرات دينية أنتجها بشر من عصور طويلة مضت، بادعاء انتساب مفاهيمهم للدين الإلهي المصدر، رغم أن الدين يفهمه بشر، ويطبقه بشر، هذه الأمة التي تلجأ لرجال الدين ليكونوا مرجعية لها في تنظيم حياتها، ألا تكون بذلك قد تخلت عن العلم والعلماء، أو في أحسن الأحوال جعلتهم في مرتبة التابع الذي يتحتم عليه أن يكون مطيعاً، وإلا عد كافر أو محرض على الكفر؟!
هل تتحمل أمتنا المصرية في ظروفنا الراهنة بالتحديد، ونحن متخلفون أميالاً، ليس عن الدول الغربية المتقدمة، ولكن عن شعوب جنوب شرق آسيا، هل نتحمل في ضوء الانهيار شبه الكامل في جميع مناحي حياتنا، هل نتحمل النأي عن العلم والعلماء، لنسلم أمورنا لرجال الدين، الذين لهم كل الاحترام كمواطنين، وكعلماء في شئون الدين وليس الدنيا، التي تحتاج علوماً من نوع آخر مختلف تماماً عن علوم الفقهاء؟!!
يتوجب علينا، ويحق لنا كمصريين أن نختار، بين أن يبقى الدين علاقة إيمانية مقدسة بين الفرد وخالقه، فيما يلتزم في علاقاته الحياتية العملية بالعلم ومتطلباته، نحدد بموجبه الصواب والخطأ على ضوء نتائجه العملية، وبين أن نسلم أمورنا لرجال الدين، ليكونوا هم المرجعية لنا، ليخبروننا عن الحرام والحلال، الذي لن نستطيع التيقن من صدقه إلا في الحياة الآخرة.
الحياة اختيار، وعلينا كأمة أن نختار أي الطريقين نسلك، لكن علينا بعد ذلك أن نتقبل صاغرين ما سوف يترتب على خيارنا.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات