إنّ اليوم التي تتفق فيه البشرية على دين واحد لن يأتي أبدًا....
لقد شهدت المجتمعات الإنسانية على مر العصور، تجارب مريرة، طالت معظم شعوب الأرض إن لم نقل كلّها، التي قاست وحشيّة الحروب، والإبادات الجماعية، وممارسات العنف الطائفي، والتطهير العرقي، وغيره من الأمور، التي غالبًا ما كانت تُعلن وتمارس تحت شعارات لاهوتية ودينية، فكان الكائن الإنساني على الدوام، يمنح نفسه حق تصنيف الآخر، ويجد المسوِّغات الدينية، لممارسة شتى أنواع العنف تحت شعارات quot;فاضلة quot; وquot;ربانية quot;... وكانت الأسباب في معظمها عرقية او طائفية أو مذهبية أو عقائدية.........
ونحن اليوم كبشر، نَصِفُ أنفسنا بquot;أبناء الألفية الثالثة quot;، ونُصنِّف أنفسنا بأننا quot;أفراد متحضرينquot;، في عصر العولمة والانفتاح....وغيره من الأوصاف التي نمنحها لأنفسنا بغباء ونقدّم ذواتنا على أننا أكثر فهمًا وعلمًا وتطوّرًا...ممن سبقونا، واننا دعاة حقوق الإنسان وحوار وانفتاح وتعددية....... فكيف يبدو المشهد الحضاري العالمي اليوم يا أبناء العصر الفريد؟؟؟
لا شك أننا نقف على أبواب أتون محموم.... ونشهد وحشية تفوَّقنا بها على من سبقونا بمراحل،إنها وحشيّة متطورة هجينة، استطاعت ان تتقنع بأبهى الصور وتتخذ من الشعارات أنبلها......
فالأسلحة الفتاكة منتشرة في معظم دول الأرض، والسباقات النووية جارية بامتياز، والتقنيات الوراثية من استنساخ وغيره، من ابحاث سريّة تحاول ان تبحث لها عن وباء مدمرٍ هنا، او جين مميزٍهناك، لاستخلاص عناصر نخبوية تسود البشرية؛ كلّ ذلك ينذر بكارثة، علمًا أنه يمارس تحت شعارات البحث العلمي السلمي لخدمة الانسان ليس إلا....
أما الوضع الميداني، فلا يحتاج لشرح طويل، فمشاريع الهيمنة و التقسيم مستمرّة على قدم وساق، ففي العراق حمام دم يومي مفتوح، لم تنفع معه لا الخطط الدولية ولا الاقليمية لا الأمنية منها ولا العسكرية، وفلسطين أسوأ حالاً، ولبنان على كفّ عفاريت متعددة، والسودان والصومال والباكستان........كلها دول لا ندري في أي وقت تشتعل فيها أتون حرب أهلية أو طائفية...
وإن كانت هناك مشاريع دولية كبيرة في المنطقة، إلا أن المظلة التي تستظل بها في معظم الأحيان دينية وأيديولوجية، فغالبًا ما تُمَرر هذه المشاريع عبر اقتتال ابناء الشعب الواحد،الذي يتمّ دائمًا عبر الأقنية المذهبية والشعارات الطائفية.......علمًا أنّ الدول الكبرى لا تهتم بالدول الأخرى، إلا بالقدر الذي يمكّنها من تسريع دورة رأس المال، والدورة التجارية للسلع من خلالهاوما يمكن أن تستفيد منها من موارد الطاقة، وبالتالي فكون هذه الدول تفرض سلعها ونمط استهلاكها لا يعني أنها تستهدف الآخرين من أجل الاستهداف وحسب، ولكن من أجل السوق، لتسريع وتيرة الدورة الربحية للسلعة الرأسمالية؛ ولعل تكنولوجيا الإعلام والاتصال تجهيزًا وخدمات، إحدى الوسائل التي توظفها هذه الدول، فهي توظف فيها الهدف التجاري من جهة، والوسيلة من جهة أخرى، وسيلة تنميط الأفراد والمجتمعات لخدمة الهدف التجاري والجيوستراتيجي لها.
إذن هذا التسويق لا بد له من معتقد يترجمه، فما جاءت به ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال والتحولات المؤسساتية المصاحبة لها، من أبرز المعتقدات الجديدة التي أريد لها أن تكون ديانةالعصر،و مفرداتها العولمة والمجتمع الإعلامي الكوكبي ومجتمع الإعلام والاتصال ومجتمع المعرفة...ومجتمع الاستهلاك
والسؤال الأبرز المُلح : لماذا لم يساهم التطور الهائل للاتصال في الحدّ من الحروب quot;الدينية quot; وquot;الطائفيةquot;...؟؟؟ علمًا أن التكنولوجيا والاتصالات السريعة ساهمت بشكل كبير في تعرف شعوب الارض على بعضها البعض، واصبح الانسان على اطلاع على معظم المعتقدات والحضارات السائدة، ولماذا يبقى المعتقد المحرك الرئيس في النزاعات ؟؟وهل المشكل في الدين ؟؟
عند استعراض التيارات الفكرية، نجد ان الفكر الإلحادي السياسي، والفكر الأصولي الديني المؤدلج، وما بينهما من تيارات فكرية أخرى، هي في وجوه متعددة لعملة واحدة، فالكلّ يسعى quot;للسلطة quot;، والكلّ يطلب quot;الجمهورquot;، لذلك فكل الايديولوجيات تلك في جوهرها، تهدف الى التحريض بالدرجة الأولى، فهي وان اتخذت أُطرًا فكريّة عقائدية، غير أنها تبتعد عن الدين بمفهومه الجمالي الروحاني ومستواه الفردي.
فالأديان والعقائد كحالة نظرية طوباوية مقبولة ومحببة للانسان، ولكن كحالة عمليَّة عانينا منها الأمرّين وجرّت علينا الويلات، والشواهد التاريخية تؤكِّد على عدم جدوى الإتكال على الضمير الجمعي لوقف سفك الدماء والحروب....كما أن رجال الدين، والكهنوت، والاكليروس،لم يكونوا قادرين على لجم حالات الحقد الطائفي والمذهبي، وغالبًا ما تكون العظات والخطَب الداعية للتآخي والمحبة أسيرة المعابد والمساجد، علاوة على أنها في بعض الأحيان تشكل أقنعة لطيفة لأحقادٍ دفينة وضغائن مكتومة.......
إن الدين ظاهرة إنسانية موغلة في قدم الإنسان نفسه، وبدأ مع بداية الإنسانية نفسها، وكان المساهم الرئيسي في تشكيل الحضارات والفنون والآداب والأخلاق والتشريعات وكافة أوجه النشاط الإنساني، كما يُشكِّل البُعد المعنوي الذي يطبع الحياة الآنية الحاضرة، كما أن معظم الأديان والعقائد، تتجاوز الحاضر لتتدخل في المستقبل إلى أبعد من حدود الموت،إلى حياة أو حيوات أخرى مكتنزة كل المفاهيم الغيبية مثل: الدينونية والآخرة والفردوس والجحيم، وسائر المفردات التي تحفل بها العقائد والايديولوجيات التي لا حصر لها ولا عدّ....
فالفكر الديني ليس مرحلة منقضية من تاريخ الانسانية، بل هو متأصل في الفكر الانساني، والمحرض الدائم للسلوك الانساني، وواهم من يتخيَّل ان البشرية ممكن ان تتفق على دين واحد، وواهم ايضًا من يتخيل ان الانسان ممكن ان يحيا بلا دين.......
فالظاهرة الدينية تتجلى على مستويات ثلاثة :
المستوى الأول : الدين الفردي: وهوخبرة فردية يعيشها الإنسان بروحه، وأعماق نفسه، غير نابعة عن إرادة مسبقة، و بمعزل عن تجارب الآخرين،يتذوقها على شكل إحساس داخلي بسيط، في مواجهة فريدة، مع قوة منبثة في الكون، إنه اختبار روحي بعيد عن أي موقف عقلاني او نقدي، فالدين بوصفه ظاهرة فردية لا يُراقب من الخارج ولا يقولب بقالب ولا يختص به أحد، إنه تجربة خاصَّة وجدانية روحية بحتة.
المستوى الثاني :الدين الجمعي : وهو عندما تتبلور الظاهرة الدينية بشكل جماعة من خلال خلق الرموز وممارسة الطقوس...
المستوى الثالث :الدين المؤسسة : وهو بنية سياسية واجتماعية مركّبةوهي فوق مستوى الدين الجمعي، وهي بهذا الوصف حديثة نسبيًّا في تاريخ الحضارة الانسانية، فالمجتمعات البدائية عاشت الدين بالمستوى الجمعي دون مؤسسة دينية تملك السلطة المرجعية العليا.
و تقع معاناة البشرية اليوم في quot;المؤسساتquot;، مع الدين quot;المؤسسة quot; ومع مؤسسة quot;الدينquot;، وليس مع الدين بوصفه خبرة فردية أو حتى جمعية، والعلاقة جدلية ومحتدمة بين quot;المؤسسة الدينية quot;، وquot;المؤسسة السياسية quot;، فطالما حافظ النظام السياسي على قوته بقيت المؤسسة الدينية، تُقدِّم له الخدمات، والفتاوي المطلوبة، ضمن الحدود المرسومة، فإذا اختل النظام السياسي بغت المؤسسة الدينية عليه، وغلبت، وجعلت منه مطيَّةً لها، تحكم من ورائه.......وهنا تُطلق الفتاوى، ويُسيس المقدس، ويُقَدّس السياسي، وتشن الحروب، وتُعلن الشعارات، وكلا يتمسك بquot;لاهوته quot; ويتذرع بquot;إلههquot; ويموت لأجل نصرة quot;دينهquot;....
للخروج من أزماتنا المتفاقمة لابد من العودة الى quot;البدائيةquot; في التدين، والعودة الى الدين بمفهومه البسيط، بمستواه الاول، كعلاقة فردية، تصل الكائن بسائر الكائنات على مستوى الروح والاحساس، وربطه بالجمال وجعله مصدر للابداع، وذلك من خلال فتح الآفاق الجمالية الإبداعية، والاستفادة من المبادئ الفلسفية، التي سعت منذ الأزل، إلى تلّمس الحلول بهدف سعادة الكائن المسمى إنسانًا، وإزالة حالة البؤس الانساني، التي تتجلّى صوره الفاضحة في كل ما يدور حولنا،سواء الاوضاع الامنية وانتهاك حقوق الانسان او الأوضاع البيئية التي تنذر بكوارث طبيعية.....
في الخبرة الروحية الفردية، يرتبط الانسان بالكون والمكون، فتتلاشى المادة بالوعي، والوعي في المادة، في وحدة متكاملة ؛ يتلاشى الكائن بالمكون ويتلاشى الكون في الكائن، فيعطيه احساس بالخروج عن الذاتيّة والتوحد مع كل ما يدور حوله، إنه اختبار للوحدة الكلّية للوجود، في وعي الغيب، واختبار منعكسات هذه الخبرة في الواقع، بهذه الحالة يكون الدين هو الحالة التناغم الأمثل مع الكون، فالانسان الكوني هوذاك الذي يحترم الوجود وهو ممتنًا من أعماق نفسه للمكون، يحترم كل الكائنات الانساني منها وغير الانساني على السواء.
عندها يرتبط مفهوم المحبة بالجمال الإلهي، يكون قد أرتقى الإنسان بالجمال إلى أرقى بُعد ووصل به إلى أعلى قيم التجريد، التي اشار إليها أفلاطون عندما جعل قيم الحق والخير والجمال ذورة القيم في عالم الُمثُل؛ وإذا انُتقِد افلاطون لمثاليته المفرطة وطوباويته، يبدو لي ان قليلا من البدائية في الايمان والطوباوية في الخيال ترقى بالانسان، وتعيد له روحه الضائعة في عالم المادة التي يتناهش لأجله طُلاب السُلطة وارباب الكراسي أجمعين، فالمثالية أشبه بنور يكشف جمال الأنفس، ولعل من أرقى لحظات إبداع الكائن الإنساني هي تلك يحيى فيها بذوقٍ رفيع، تكمن في ملكة وجدانية لروح شفَّافة واعية تفهم وجودها، ونفس تعي أن وجودها جزء منه في بدن يعكس الوجود المطلق في الطبيعة والكون، وتصبح العبادة كيفما كان شكلها هي معبر حب وحالة وجود في المكون، عندها لن تكون خيارات الانسان الا كل ما هو متناغم مع البيئة الطبيعية، لأن كل الكائنات عندها جزء من المكون الذي يحبه فتصبح عملية الاساءة الى اي مخلوق امرٍا متعذرا.
مروة كريدية ndash; كاتبة لبنانية
[email protected]
Marwa_kreidieh.maktoobblog.com
التعليقات