تمهيد
أعود إلى الكتابة بعد طول انقطاع لسببين: الأوَّل ألم مبرح في اليدين نتيجة الاستعمال شبه الدائم للحاسوب أدى إلى جراحة وعلاج لم ينته بعد. أنصح كلَّ من يستعمل الحاسوب لأوقات طويلة أن يأخذ على محمل الجد التحذيرات الصحيَّة المرافقة لاستعماله. أما السبب الثاني، فهو شعوري بأنَّ الضجيج والتشاتم اللذين يسودان الحلبة السياسيَّة يمنعان الحوار ويعطِّلانه، فآثرت الصمت.
من الصعب أن يبدي المرء رأيًا في خضِّم الشتائم. لكن من غير الجائز لمن له رأي مستقل أن يصمت عن رأيه بسبب التشاتم. فليس كلُّ الناس بشتَّامين. ربَّما كانت الأكثريَّة رافضة لهذا الأسلوب، وتبحث عن رأي تناقشه وتنقده وتتَّفق أو تختلف معه، ولكنَّها تستمع له.
أخيرًا، نحن في وقت تقف فيه بلادنا بين الموت والحياة. بل إنَّها للموت أقرب. عملاء الموت ناشطون، ينشرون الشقاق، يستوردون السلاح ويشحذون السكاكين تحت شعار quot;حبِّ الحياةquot;. الأصوات المخلصة التي همّها الناس الطيِّبون تخبو أو تصمت، ثمَّ تهاجر قبل أن تنفجر قلوبها وتنزف أدمغتها. مَن يكتب لهؤلاء إذا صمت أولئك؟ ربَّما لا تغيِّر الكلمة نفسًا انطوت على الشر. وربما تفعل. كلُّ ما نملكه هو المحاولة. كلُّ ما نملكه هو الكلمة.

في البُعد الآخر:
هل تذكرون quot;الكومكسquot;، مجلاَّت الأطفال المصوَّرة؟ مجلاَّت رافقت طفولتنا مثل quot;سوبرمانquot; وquot;الرجل الوطواطquot; وquot;الرجل العنكبوتquot; وquot;سمير وتهتهquot;، وسواها؟ لقد حلَّت ألعاب الفيديو مكانها. في بعض تلك المجلاَّت، ولاسيَّما سوبرمان، كان هناك quot;بُعْدٌ موازquot; لبعدنا Parallel Dimension، يعيش فيه أشخاص آخرون، معظمهم شرِّير، يخطِّطون للسيطرة على الكون، فيحيكون المكائد ويوقعون بالناس ويعيثون في الأرض خرابًا. كانت العلاقة بين البعدين المتوازيين لافتة للنظر. فللناس هنا أهداف معيَّنة تختلف عن أهداف من هم هناك. ولكن اللغة واحدة والتعابير واحدة، بحيث أنَّك إذا استمعت للكلام دون أن تدرك في أيٍّ من البعدين أنت، اختلطت عليك الأمور.
بالأمس، أجرت محطَّة ABC مقابلة مع نائب الرئيس الأميركي quot;ديك تشيني.quot; للإنسان الاعتيادي مثلنا، بدا السيِّد تشيني وكأنَّه إنسان مصاب بلوثة. إنَّه يتكلَّم عن الانتصارات والتقدُّم الذي تحرزه الإدارة الأميركيَّة في quot;الحرب على الإرهابquot;. كان يتكلَّم متعاميًا عن حجم الخسائر من العسكريِّين والمدنيِّين، وعن الدمار والتشقُّق والتشرذم والفوضى والضحايا اليوميَّة. لقد بدا كأنَّه يعيش على كوكب آخر لا علاقة له بكوكبنا. لقد بدا بالفعل وكأنَّه يتكلَّم من quot;بعد آخرquot;، وهو كذلك.
إنَّ ماسكي القرار في الإدارة الأميركيَّة يعيشون في بعدٍ آخرٍ مواز لبعدنا. إنَّهم يبدون مثلنا، ويتكلَّمون لغتنا، ويستعملون مصطلحاتنا، ولكن لأغراض أخرى مناقضة تمامًا لقضايانا. وحين نقول quot;قضاياناquot; نعني قضايا الناس الاعتياديِّين، مثل قضيَّة حقوقهم الأساسيَّة في الحياة الحرَّة والعمل والحبِّ والزواج والإبداع. ونعني قضاياهم المجتمعيَّة مثل حقوقهم في موارد بلادهم وحرِّيَّتها ونظافة بيئتها وهلمَّ جرًا. إنَّها قضايا إنسانيَّة تخصُّ الإنسان الفرد كما تخص المجتمع. في البُعد الموازي، ولنكن أكثر تحديدًا، في البَُعد الذي تحتلَّه الإدارة الأميركيَّة، بل قُل تلك الفئة القليلة ماسكة مفاصل القرارات الأساس فيها، يتكلَّمون اللغة نفسها ولكن ليس لقضايا إنسانيَّة، بل لقضيَّة واحدة عنصريَّة، اسمها quot;القضيَّة الإسرائيليَّةquot; من منظور أقلِّيَّة حتَّى داخل المؤسَّسة الإسرائيليَّة.
ثمَّة طيف واسع من الآراء داخل المؤسَّسة الإسرائيليَّة، منها ما يرى أنَّ بقاء إسرائيل يعتمد على سلْمٍ إسرائيلي ndash; أي سلم تملي شروطه إسرائيل - مع الدول المحيطة بها، في حين يرى آخرون أنَّ الطريقة الوحيدة لبقاء إسرائيل هي في التدمير الاستباقي والشامل لأيِّ عدوٍّ حقيقي أو مُفترض لها. انتهى دور الفئة الأولى مع انتهاء إدارة الرئيس السابق كلينتون. ماسكو مفاصل الإدارة الأميركيَّة اليوم هم من أشدِّ أصحاب النظرة الثانية عنصريَّة وتطرُّفًا.
حين يقول نائب الرئيس إنَّ الأمور تجري على quot;خير ما يرامquot;، فإنَّه لا يتكلَّم عن الخير ذاته الذي ينظر إليه المواطن الأميركي الاعتيادي، أو مواطن أيَّة دولة في العالم. فالمواطن الأميركي، حتَّى الذي اقتنع فعلاً أنَّ الولايات المتَّحدة quot;تحارب الإرهابquot; في أفغانستان والعراق، يرى أنَّ الولايات المتَّحدة تخسر الحرب. إنَّها تخسر يوميًّا من جنودها، وتخسر من رصيدها، وتخسر من مصداقيَّتها. لذا فالمواطن اليوم على استعداد لإعادة النظر في هذه الحرب. هذا ما عبَّرت عنه الانتخابات الأميركيَّة الأخيرة.
ولكن أيًا من هذا ليس من اهتمامات قاطني quot;البُعد الآخرquot; على الإطلاق. إنَّ همَّهم الوحيد هو تدمير أعداء إسرائيل بأكبر قسوة ممكنة وإلى أطول مدَّة زمنيَّة كذلك. إنَّهم يريدون مسافة شاسعة بين واقع إسرائيل التكنولوجي وأعدائها بحيث يمكن للمؤسَّسة الإسرائيليَّة أن تجلب أكبر عدد ممكن من يهود العالم وتسكنهم في quot;أرض الوعدquot;. وهم في هذا، قد نجحوا في أمكنة وأخفقوا في أخرى.
في quot;البُعد الآخرquot;، كان لا بدَّ من تدمير العراق وتفتيته مذهبيًّا وعرقيًّا بعد تجويعه، وإخراج سورية من لبنان تمهيدًا لضرب المقاومة اللبنانيَّة، وضرب الفلسطينيِّين بعضهم ببعض، ومن ثمَّ الالتفات إلى تدمير قدرات كلٍّ من سورية وإيران. لقد نجح قاطنو البُعد الآخر إلى حدٍّ كبير في العراق، وحازوا نصف نجاح إذ أخرجوا السوريِّين من لبنان، وفشلاً كبيرًا إذ لم ينجحوا في القضاء على المقاومة، وكادوا ينجحون في إشعال حرب أهليَّة فلسطينيَّة، ولعلَّهم سيستمرون في المحاولة. أمَّا في لبنان، وقد أعيتهم المقاومة في الجنوب، فإنَّهم يسعون جاهدين إلى استنزافها في الأزقَّة. إن التحذير الذي وجَّهه منذ مدَّة الأستاذ سمير جعجع quot;كصديقquot; إلى السيِّد حسن نصر الله حين نصحه أن يحذر من انتهاء المقاومة في أزقة بيروت، له ترجمة واحدة فقط: quot;إننا سنعمل كل ما في وسعنا لكي تنتهي المقاومة في أزقة بيروت.quot; تبقى سورية وإيران، والاستعداد على قدم وساق لضرب قدرات هاتين الدولتين وإرجاعهما عقودًا إلى الوراء. أمَّا الفشل في لبنان، ومخاطر ضرب إيران، وحجم الخسائر في العراق، فهذه إمَّا تراجعات بسيطة أو ثمن لا بدَّ من دفعه لإنجاح مخطَّط طويل الأمد.
من جرد الحساب هذا، يمكن لنا فهم كلام نائب الرئيس الأميركي. إنَّه كلام من بُعدٍ آخر، ولجدول أعمال مستتر. لقد نام المواطن الأميركي على كذبة أنَّ احتلال العراق ضروري لضرب الإرهاب، ليستفيق على حقيقة أنَّ ضرب العراق وقبلها أفغانستان ولاحقًا إيران، هو الإرهاب عينه.
ماذا عن يوم حساب؟ أي هل لا يخشى قاطنو البُعد الآخر من حساب الشعب الأميركي لهم في يوم من الأيَّام؟ نعتقد أنَّهم يراهنون على قصر الذاكرة الجمعيَّة للشعب الأميركي، والحماية التي توفِّرها لهم عقود من غسل الأدمغة الأميركيَّة. من جهة ثانية، إنَّهم يدركون أنَّ هذه فرصتهم الذهبيَّة بما تبقَّى من وقت للرئيس جورج دبليو بوش ليضروا ضربة حاسمة تغيِّر معالم التاريخ والجغرافيا في منطقة الشرق الأوسط لصالح إسرائيل.
ماذا عن إسرائيل في كلِّ هذا؟ إنَّ المتتبِّع لما يرشح من تعليقات وأخبار من إسرائيل، يلاحظ نوعًا من القلق والتخوُّف والتبرُّم من قاطني البُعد الآخر. إنَّ القيادة الإسرائيليَّة حتَّى وإن سال لعابها على إمكانيَّة ضرب جميع أعدائها في المنطقة، لا يسعها سوى أن ترتجف من ردَّات الفعل سواء من فشل عسكريٍّ أميركي، أو من انعكاسات تدمير الأعداء عليها في المستقبل القريب أم البعيد. إنَّ إسرائيل، لا سيَّما بعد فشلها في لبنان، تحاول فتح حوار مع سورية لتصطدم بجدار قاطع من الرفض يأتيها من البُعد الآخر.
في لبنان، نجح البُعد الآخر باستقطاب محترفي التنقُّل بين الأبعاد. وهؤلاء يشكِّلون بُعدًا في حدِّ ذاتهم. إنَّهم مَن وصفهم المرحوم إسكندر رياشي بقوله: quot;يحسبون القاتل بطلاً، والمتلاعب نابغة، والذي يمكنه أن ينهب ويسلب ولا يفعل (أهبلاً)quot;.
لا، لم يخطئ السيِّد تشيني حين تكلَّم عن انتصاراته. إنَّه يتكلم عن تحقيق أهداف محدَّدة لعقيدة واضحة يمكن اختصارها بالعبارات التوراتيَّة التالية: quot;ويكون الملوك حاضنيك وسيِّداتهم مرضعاتك. بالوجه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك، فتعلمين أنِّي أنا الربُّ الذي لا يخزى منتظروه ..... وأنا أُخاصم مُخَاصمكِ وأخلِّصُ أَولاَدك، وأَطْعِمُ ظَالِمِيكِ لَحمَ أَنفسهِمْ، ويسْكَرونَ بِدمِهِمْ quot; أشعيا: 49-23