غالبا ما تعتمد الاقتصاديات النامية على البنوك كمصدر أساسي للتمويل. لكن هذا لا يبرر الاستغناء على مصدر إضافي و هام، ألا وهو أموال العموم التي تجلبها أسواق راس المال المسماة بالبور صات. تكمن أهمية هذه الأخيرة على اعتبارها : (1) مصدر تمويل للشركات الناجحة، (2) فرصة ادخار للعموم توفر عائدا افضل من الفوائد التي تمنحها البنوك على الودائع، و (3) مصدر جلب الأموال - المحلية و الخارجية - تفوق قدرة البنوك على جمع الودائع.

على هذا الأساس، حصلت قناعة لدى صناع القرار في الدول العربية بضرورة إنشاء و تطوير البور صات. لكن دور هذه المؤسسات بقي محدودا في بعض الدول، حيث لا تزيد نسبة القيمة السوقية للشركات المدرجة للناتج المحلي الإجمالي على 79% في المغرب، 74% في مصر ، و 12% في تونس، مقابل اكثر من 100% في الأسواق الناشئة. لكن هذه الأسواق عرفت طفرة غير مسبوقة في دول الخليج ابتداء من 2003 و استمرت حتى النصف الأول من 2005 ، حيث ارتفع مؤشر سعر الأسهم بــ 140% بالإمارات، 64% السعودية، 26% بعمان، 62% بقطر، و 21% بالبحرين. و هذا ارتفاع لا علاقة له بالأداء الاقتصادي للشركات المدرجة في هذه الاسواق. لذلك من الطبيعي أن تليه عملية انهيار كالذي حصل فعلا من أواخر 2006، و الذي الحق افدح الخسائر بالمستثمرين. فما سبب هذا الانهيار، و هل هو مجرد عملية quot;تصحيحيةquot; ستنطلق بعدها هذه الأسواق على أسس سليمة؟

لعل الخلل الأساسي في أسواق راس المال الخليجية ( و العربية الأخرى ) تتمثل في بنائها من الأول على أسس غير سليمة. خلافا لسوق الخضر و الفواكه حيث يتأكد المشتري من نوعية البضاعة بسهولة و يحصل عليها فورا مقابل دفع الثمن، يتم شراء اسهم الشركات المعروضة في البورصة بسعر يفترض انه يعكس الحالة المالية الحقيقية للشركة. و لا يمكن التأكد من ذلك إلا إذا كانت المعلومات المتوفرة ذات مصداقية ، أي تلبي شروط الإفصاح quot; Disclosure quot; و الشفافية quot; Transparency quot; المتعارف عليها في الأسواق العالمية، التي تطالب الشركات المدرجة بتوفير بياناتها المالية بصفة منتظمة، مع اعتمادها معايير المحاسبة الدولية و تدقيقها من طرف مؤسسات مختصة و من خارج الشركة . و حتى بالنسبة للاستثمار الذي يوفر عائدا ثابتا (السندات)، يجب التأكد من أن الشركة التي تصدرها ستكون قادرة فعلا على الوفاء بالتزاماتها، ويتوفر هذا في الأسواق المالية العالمية بالتصنيف الذي تحصل عليه الشركة من مؤسسات معروفة و موثوق بها مثل quot; موديز quot; و quot;ستاندارد اند بورز quot; ...

لعل اكبر خطا ارتكبته الدول الخليجية يتمثل في إنشاء بور صات لا تتوفر فيها شروط ما يسمى بأفضل الممارسات الدولية . فهي بالأساس مؤسسات تابعة للقطاع العام و تتم إدارتها بصفة بيروقراطية. لذلك فهي تفشل تماما كما تفشل سائر مؤسسات القطاع العام الأخرى، و لنفس الأسباب. فالمسؤولون فيها معينون quot; سياسيا quot; ، و لن تتوفر فيهم على الأرجح الخبرة اللازمة لادارة هكذا مؤسسات. و في كل الأحوال ، لن يكون بإمكانهم تنفيذ المطلوب، خصوصا عندما يتصل الأمر بمنع المعاملات المبنية على معلومات يحصل عليها المستثمر من داخل المؤسسة quot; Insider Trading quot; ، و هو تصرف يعاقب عليه القانون بصرامة في الأسواق المالية المتطورة، و حتى الناشئة منها على-أسس سليمة- مثل هونج كونج و سنغافورة. و يحصل العجب العجاب فيما يعرف بالإصدارات الأولية للشركات التي تقرر فتح رأسمالها للعموم. إذ نسمع عن إصدارات لشركات جديدة أو تحت التأسيس، ليس لها أي ماضي يؤكد على نجاح أعمالها. و شجعت البنوك الجمهور على الاستثمار فيها ، لكي تفوز هي بالعمولات الضخمة التي مثلت أحد أهم مصادر أرباحها في السنوات الأخيرة ( انظر مقالي: بنوك عربية مفلسة تحقق أرباحا ! ). حتى أصبحنا نسمع عن بنوك تمول 90% من قيمة الأموال المكتتب بها !!! و وصلت التكلفة للمستثمرين أضعاف القيمة الاسمية للأسهم !!! و وصل الاكتتاب في بعض الإصدارات الأولية لما يزيد عن 300 ضعف قيمة الأموال المطروحة للاكتتاب !!!

في خضم هذا الكم الهائل من الأموال المتداولة ، تم تحييد الشركات العالمية الرائدة في مجال الوساطة المالية ، مثل quot; Merrill Lynch quot; لصالح quot; سماسرة محليين quot; استعملوا نفوذهم للاستحواذ على الكعكة بمجملها. و أدى هذا الأساس غير السليم إلى مضاربات كبرى و تلاعب بأسعار الأسهم، و وصل مضاعف سعر السهم quot;P/E ratioquot; ، أي المبلغ الذي يدفعه المستثمر للحصول على دينار واحد من الأرباح، بنهاية مايو 2005 إلى 34 بالسعودية، 39 بالإمارات، 15 بعمان، 16 بالكويت ، و 36 بقطر، مقارنة بنسبة لا تتجاوز 15 في الأسواق المتطورة و 20 في الأسواق الآسيوية الناشئة. و هذا بحد ذاته مؤشر على أن الانهيار قادم لا محالة.

بدا الانهيار في أواخر 2005 و استمر خلال 2006، حيث انخفض المؤشر العام للاسهم في أسواق راس المال بنسبة 34% في الإمارات، 36% في السعودية، 38% في قطر، و 8% في الكويت، و وصلت العدوى إلى بعض الأسواق العربية الأخرى مثل الأردن حيث انخفض المؤشر بــ 28%.

بالرغم من أهمية هذا التراجع باعتباره عملية تصحيحية لا بد منها ، بعد الارتفاع الجنوني للسنوات السابقة ، لا يمكن القول في تقديري بان البور صات الخليجية - والعربية بصفة عامة - انطلقت على قواعد سليمة. فتبعيتها للقطاع العام يعني أنها مازالت تشكو من نقاط الضعف التي عرضنا لها سابقا. و على هذا الأساس ، لن يكون بالإمكان منع استغلال السلطة و المعلومات الداخلية للشركات لتحقيق صفقات من المفروض أن تكون ممنوعة قانونيا. كما مازالت الإصدارات الأولية تعرض بصفة لا تتطابق و الممارسات المتعارف عليها في الأسواق المتطورة. و ما زالت المهنية منقوصة، حيث تقل الشركات العالمية المعروفة و تبقى الوساطة المالية مجرد quot;سمسرةquot; في أيدي محلية لا تتوفر فيها الخبرة و الدراية التي تؤهلها للعمل. و على هذا الأساس، ستبقى البور صات الخليجية - و العربية الأخرى - أما في حالة ضعف و ركود لا تلعب دورا يذكر في تمويل التنمية ، أو مجرد quot;دكاكين مضاربةquot; اقرب إلى quot;كازينوهات القمارquot; منها إلى أسواق مال تنافسية تلعب دور الوساطة بين المدخرين و المؤسسات التي تحتاج إلى تمويل.


كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي ، باحث أكاديمي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي

[email protected]