تمعن قوى الظلام والتخلف في التنكيل بالعراق يوماً بعد آخر، وسنة بعد أخرى. وهذا الصباح، تأتينا الأخبارُ من بغداد، كعادتها، بما يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا : تفجير مفخخة في شارع المتنبي الشهير والعريق. إنها حربهم الهمجية على كل مظاهر الحياة والعافية في عاصمة الرشيد. أمس واليوم وغداً، قتلوا ويقتلون وسيقتلون الأبرياء، من كافة شرائح الشعب العراقي، ولا يكتفون بذلك، بل يذهبون إلى شارع الثقافة العراقية الأشهر والأعرق، في المشرق العربي، بعد أفول العصر الذهبي لسور الأزبكية بالقاهرة، ليجعلوا من مُرتادي هذا الشارع ومثقفيه وبسطات كُتبه، ركاماً مختلطاً من لحوم البشر وأوراق الكتب : ركاماً من الرماد والسواد.
جريمة لا يجب أن تمرّ دون أن تمسّ ضمائر المثقفين العرب، أينما كانوا، في أوطانهم ومنافيهم. جريمة تُضاف، على الصعيد الثقافي والحضاري، إلى جريمة نهب المتحف العراقي، والعبث بمقدرات وطاقات العراق الثقافية الكبرى.
لقد أراد مُرسلُ المفخخة، إيصال رسالة إلى المثقفين العراقيين مفادها أنهم في البال. وأنّ يوم كل مثقف منهم قادم. فالمثقفون العراقيون، بمجملهم، هم الشريحة الأهم، من بين شرائح المجتمع، التي تقف لهؤلاء الظلاميين بالمرصاد. وهم الأقدر على مقارعتهم وكشف تخلفهم وفضحهم، بما يمتلكون من وعي وموقف وقدرة على الإبانة والتمحيص.
لم يكتف المجرمون بكل جرائمهم السابقة، ولن يكتفوا على الأغلب. لكنهم اليوم، وفي تطور نوعي جديد، يضعون الثقافة العراقية العظيمة، بمثقفيها وكتبها ورموزها ومقاهيها وشوارعها، على لائحة الاغتيال.
ونحن نخشى أن يتكرر ما حدث في شارع المتنبي، في مناطق وشوارع أخرى من العراق. بل ونخشى أن تُستهدف كل أماكن ضخ الثقافة العراقية : نخشى استهداف المطابع ودور النشر والمهرجانات وصالات العرض السينمائي والمسرحي. وقبل ذلك وبعد ذلك، نخشى على المثقف العراقي ذاته، مُنتج الثقافة الأول، من الاستهداف الشخصي. فالبرابرة ليسوا بغافلين عنه، خصوصاً وأنّ هذا المثقف التنويري، الذي يعيش في ظروف مأساوية داخل العراق، والفقير مادياً في العموم، هو هدف سهل ومكشوف لهم، بل ربما يكون أسهل الأهداف.
لذلك نناشد السلطات العراقية، الانتباه والحذر وتوخي الحيطة. نناشدها أن توفر الأمن والأمان، بقدر المستطاع، للمثقفين العراقيين ولعائلاتهم وللأنشطة الثقافية على اختلاف أنواعها وأشكالها.
إنّ هذه الجريمة هي ناقوس خطر يدق. وإنّ على أصدائها أن تصل إلى بيوت المثقفين العرب جميعاً، من الماء المالح إلى الماء المالح، خليجاً ومحيطاً. فالثقافة العراقية اليوم مستهدفة، كما هو كل شيء جميل في بلاد الرافدين.
شخصياً، ومثل كل المثقفين العرب الذين زاروا العراق، لي ذكريات عزيزة وثمينة عن هذا الشارع. لقد زرته صباح أحد أيام الجُمَع الباردة، برفقة الصديق العزيز سهيل نجم، الشاعر والمترجم العراقي المعروف. تجوّلنا في جنباته، واشتريت من بسطاته وأرفف مكتباته، عشرات الكتب العظيمة، من عيون الأدب العربي والأجنبي.
إنه شارع الثقافة الوحيد الباقي في المشرق العربي وربما أيضاً في مغربه. الشارع الذي تزوّد من خيراته الثقافية، كلُ المثقفين العراقيين الفقراء، وكل من زار العراق من المثقفين العرب. شارع عريق في حي تاريخي عريق، صمدَ في وجه الزمن وعاديات الزمن، ولم يتقهقر كما تقهقر سور الأزبكية وغيره من الأماكن _ الرموز على امتداد الوطن العربي.
تحية لشارع المتنبي، أحد مصادر التنوير الكبرى في العراق.
وتحية للمثقف العراقي، الذي ينتج ويبدع تحت أقسى الظروف.
وتحية لكل مثقف عربي، يقف في وجه المغول الجدد، حارقي الكتب والمكتبات، في غزة وبغداد، وسواهما من المدن.
أما هؤلاء الظلاميون، المحصنون ضد المعرفة والجمال، والمعادون لكل ما هو نظيف وشريف ونبيل في السلوك والفكر، فنقول لهم لا بأس. المعركة معكم لم تبدأ بعد. لكنها ستبدأ ذات يوم. ونحن على ثقة، مهما أوحش الطريقُ وقلَّ الزادُ، ومهما قتلتم منا، بأننا سننتصر، وبأنّ العراق، وطن الجمال والعبقريات، سينهض من كبوته، وسيقضي على تخلّفكم وتصحركم الحضاري والنفسي. فالعراق وطن الأنشودة الأولى والملحمة الأولى والشريعة الأولى، هو وطن الحياة في أعذب وأقصى تجلياتها، لا وطن الموت والخراب والدمار.
إنكم غريبون وطارئون عليه، كما على تاريخه، كما على ترابه، كما على منظومة قيمه. ولذلك، فلسوف تمرّ هذه المحنة، وغيرها من المحن والبلايا، ليعود العراق العظيم إلى سيرته الأولى : وطناً _ منارةً، وسط محيطه وإقليمه : وطناً ينضح بالخير والحق والجمال.

ولسوف ننتصر!