في بدابات القرن العشرين كانت وظيفة الشيخ، بمعنى إمام المسجد، في معظم المناطق السعودية باستثناء الحجاز تشمل التعليم الأساسي، وربما تتضمن الطبابة في معناها الشرعي: الرقية، ومعناها السريري: الأدوية والعلاجات بما في ذلك المعاينة والفحص.
كان الاعتماد على الإمام للتعليم منطقياً لشيوع الأمية ولأن أئمة المساجد هم الأقرب للتعليم لمعرفتهم أوليات القراءة والكتابة، وإن كانت دروسهم تقتصر، في الغالب، على حفظ بعض السور فقط. أما اللجوء إليهم طبياً فهي مسألة طبيعية منبعها الإيمان، ومحركها الحاجة الضرورية. رغم كل ذلك لم يكن للشيخ/الإمام سطوة اجتماعية تتجاوز احترام وظيفته الدينية.
ظلت الحالة الاجتماعية قائمة على توازن دقيق تتقاسم مساحات الحضور فيه قوى مختلفة تبعاً للدور الفعلي والمساهمة الحقيقية في المجتمع. هذا الوضع أدى، تلقائياً، نتيجة وعيه الداخلي إلى منح الطبيب قيمة اجتماعية خاصة ومتفردة لأنه، حال ظهوره وبدء نشاطه في المجتمع، أسهم في انقاذ المجتمع من أمراض كانت تشل حركته، وتدمر طاقاته دون أن يستطيع الشيخ علاجاً لها، أو يتمكن من فهم سرها، في الوقت الذي كان الطبيب مدهشاً إلى درجة اقترابه من السحر. ثم نال المعلم، مرحلياً، جزءاً محدوداً من تلك الحظوة، إلا أنها فقدت توهجها بسبب السكون الاجتماعي لوظيفة المدرس.
اندلعت شرارة المشيخة الجديدة منذ أوائل الثمانينات معلنة عودة مميزة لفئات من مدرسي المواد الدينية الذين بدأوا تأسيس حالة جديدة اجتماعية لهم؛ إذ بدأت صلاحياتهم تتسع مع تزايد نفوذ الصحوة، وانتشارها في المجتمع معتمدة طرائق كثيرة شملت كل وسائل الاتصال المتاحة، مترافقة مع ارتخاء اجتماعي، واحتفاء رسمي مفهوم. أصبح مدرس الدين سعودياً ملتحياً؛ هو إمام الحي، والمشرف على المكتبة المدرسية ومكتبة الجامع التي انتشرت في تلك الفترات، وهو المسؤول عن الرحلات الطلابية والتوجيه والارشاد. منذ تلك الفترة أضحى للشيخ وهجاً اجتماعياً جديداً كسر الصورة النمطية للشيخ/ الأمام، ثم ترسخ الحضور مع شيوع تطبيقات quot;فقه الواقعquot; الذي أضاف لهؤلاء دوراً ثقافياً كان في السابق ممنوحاً للمثقفين القوميين والشيوعيين، لأنهم استلموا الراية فأصبحوا يخوضون فس الشأن السياسي، ويراجعون مواقف الدولة ويسجلون عليها مايسمونه quot;ملاحظات شرعيةquot;.
هنا اصبح الشيخ هو النجم، وهو الصوت الموثوق، وهو السلطة إن اقتضى الأمر ذلك إلى أن صدرت quot;مذكرة النصيحةquot; 1992 وماتبعها من أحداث نتج عنها كمون موقت للأصوات الدينية المسيسة.
اليوم عادت اللعبة بشكل آخر؛ عبر القنوات والأشرطة والمنتديات وغيرها. استعاد الشيخ المسيس حضوره الثقافي ياتكائه على مفردات العلوم الحديثة فتفقت، فجأة، موجات من خبراء الادارة والبرمجة العصبية، والسلوك الأسري، والاستثمار في الأسهم، وكل شأن يخص الفرد مهما بدا ضئيلاً وثانوياً. ثم زاد الانتشاء ليستقطب تفسير الأحلام، والرسائل التوجيهية. أما الحالة الماسأوية فهي بدء نضال الشيخ المسيس لاختراق الحصن الأكثر مقاومة حتى الآن:الطبيب، إذ بدأ هؤلاء في بث إشاعة أن الرقية الشرعية هي العلاج الوحيد، وأن الطب ذاته مجرد وهم كبير، وأن الثقة في الاطباء هي حالة ضلال وزيف وانحداع وانحراف عن الطريق القويم.
هذه الوظيفة الجديدة، المفاجئة، والمغايرة للعلم والمنطق، هي موضوع آخر ، إلا أنه يبقى أن الشيخ هزم المثقف في كل المواجهات ليس لأنه على بل بسبب جبن وخور الخصوم!


[email protected]