لايمكن ان تتشكّل الحقائق من رغبة فئةٍ ما في الماضي او الحاضر [ كما حصل مع تراثنا ]، لتعميم صورة نمطية ثابتة، جُعلت وكأنها حقيقة مقدسة قد هبطت من فراديس الموروث، وترسّخت بمرور الاعوام في عمق الوعي الجمعي للاجيال المتعاقبة، ممثلةً ابديةً لمفهوم الصراع الفكري والاجتماعي والاقتصادي، مهما كان التباين جلياً وقائماً بين تلك المجاميع البشرية، وانماطها الفكرية، وضرورات الواقع بتجاوز نمطية تلك الصورة التي اُريد لها الثبات وصلاحية الازل إإ
هنا يستوجب السؤال في عمق الصورة الاخرى، عن طبيعة ذلك النزاع الطبقي الذي انتج هذه المفاهيم، وطبيعة التناقضات والعوامل التي افرزت لنا عبر التاريخ تلك الصورة التقليدية النمطية للوعي. وانتجت ايضاً تلك الاشكال التعظيمية لصورة الحقيقة من وجهة نظر تلك الفئة او الجماعة والافراد الفاعلين فيها، ليقدموا لنا قائمةً طويلةً من مفاهيم الممنوع والمسموح والعاطل والصالح والمقدس والمدنس والفقه والواجبات والعدل وغيرها، ويحتوي كل هذا مفهوم السلف الصالح، الذي لايقبل الزحزحة او الجدل ايضا.
هذه القصدية المعرفية المجزوءة قادت باجراءات تعميمها الى انحلالاتٍ في مختلف النشاطات لمنظومة الكيانات الجمعية. وقد فككتها بمرور الازمان الى ذواتٍ خاملةٍ غير فاعلة، تفوّض ازماتها وامورها غالباً الى شكل النص، ولكن بظاهره النمطي المتداول الثابت المقدس، او الى الافراد الاخرين الذين تولّوا عبر كل مراحل التاريخ حراسة تلك الصورة الانعكاسية التقليدية لذلك النص او هذا المسعى.
صفة الخلود والثبات لاتحتمل الشك ولا الحوار ولاجدوى الاسئلة. لان تلك الجدوى تخدش قدسية الصورة التي منحت لنا، والتي حوفظ عليها من قبل الاسلاف والاخلاف على مر العصور. تحت وطأة هذا التعميم، غاب وقع القراءات المغايرة في عمق الانسان العربي، وبشكلٍ اعم الانسان المسلم. وباتت العلاقة في عمق ذلك الوعي بين المتغيرات والتناقضات التي عاصرتها الاجيال وصورة الواقع علاقة صنمية محنّطة. بمعنى ان اي قراءة مغايرة للتاريخ، ستستحضر وتستنطق بصورة لاشعورية تلك الرؤية النمطية المسبقة الصنع في عمق الوعي الذاتي للمسلم.
وتقوده لصالح الفكرة المتداولة او لتلك الطائفة والقبيلة والفئة او لذلك الفقيه. ويتم هذا غالبا بلي عنق المضامين والاحداث والمتغيرات حفاظاً على توارث المشهد المقدس، الطارد لاي اجتهاداتٍ مغايرة. وهنا ايضا شاع مفهوم الصورة القبلية للتراث، حتى ضاقت كثيراً حدود تلك الصورة المتوارثة من كثرة القراءات التبريرية للواقع والماضي في ذات الان.
ان اختلاف المواقف المعرفية ازاء هذا التراث متاتٍ ايضاً من فكرة التعصب للطائفة او الطبقة او الحزب، كمنبتٍ مستترٍ غالباً لاهداف الكاتب المؤرخ، او الفقيه والباحث. وكما اشرنا فمنطلقات الذين رفضوا وحاربوا المعتزلة والمتصوفة واصحاب الفكر قبل اكثر من الف عام، بحجة صيانة السلف الصالح ومفاهيمه، هي نفس منطلقات الذين رفضوا فكرة تاثّر وتاثير الفلسفة الاسلامية باليونانية في العصور العربية الاسلامية الوسطى. وهؤلاء لايختلفون عن اولئك الذين اجبروا العالِم الشهير غاليلوعلى الاعتذارللكنيسة من اكتشافه كروية الارض ودورانها حول الشمس. وبعد مرور عشرات السنين والكثير من مراحل تطور المجتمعات علميا وتكنولوجيا، يرفض الشيخ المفتي المتوفى ابن باز فكرة كروية الارض ودورانها حول الشمس، كما رفض الذين سبقوه فكرة اكتشاف البرقيّة البريدية وافتوا بتحريمها، وحرّم اللاحقون الكثير من الامور باسم صيانة السلف، برؤىً تبريرية عدمية تتنافى مع منطق العلوم وجدلية التاريخ.
لكن منطق الحقائق كفيل بالرد على اصحاب هذه المنطلقات وان بطريقة غير مباشرة، كما ورد في صيغة اعتذار غاليلو للكنيسة بقوله : انني اعتذر، ومع اعتذاري هذا سوف لن تتوقف الارض من دورانها حول الشمس او تغير كرويتها.

قوىً ومناهج
لابد من القول ان المنشا الفكري والاجتماعي للمؤرخ او الفقيه الفلاني قديما وحديثا يمثل بطريقةٍ ما مصالح وتوجهات شريعته وفئته الفكرية والاجتماعية، وتمثل قراءته اهداف تلك الفئة وان تناقضت مع جهد معرفي آخرلشريحة اخرى من المجتمع لذات النصوص. لانها جهود تدّعي بمنطقها احتواء اشكالية العلاقة بين النص والواقع. فجرى ان المحاولات الاصلاحية التنويرية لتحديث النص وتثويره في العمق كانت تتم على يد نخبةٍ فكريةٍ من الفئة المستضعفة في المجتمع والتي كانت تصطدم على الدوام بمنهج النخبة السلفية الاقوى سلطةً ونفوذاً وكذلك الاكثر قدرةً على تعميم مناهجها ورؤاها. وهي مازالت تقرأ الماضي من متطلبات حاضرها برؤية قسرية تختصر كل المتغيرات والعلوم الحديثة، بزعم وجود كل شئ في تراث السلف. بينما يرى اصحاب الرؤية الاصلاحية ان الماضي كحقيقة هو شأن نسبي محكوم بتأريخية الظروف التي انتجته، وان معرفة ذلك التراث تتطلب معرفة حاجة الحاضر فكريا واجتماعيا، ومدى تقاطعها واختلافها مع مضامين نصوص التراث.
لقد حنّط اصحاب الرؤية السلفية فحوى المعرفة واعتبروها هاجسا تدنيسيا لا تحديثيا. فعمدوا الى تحنيط الماضي والحاضر معاً، لضمان ديمومة الفئة التي تمثلها في السلطة والسيادة.
عليه سيظل الحاضر في هذا المنظور مساوياً للماضي في حركةٍ سكونيةٍ ثابتة لا تحتمل التغيير. بل تفترض ابدية ذلك المفهوم رغم تناقضه مع ضرورة التطور، او محاولة ادراك علاقة الواقع بالنص التراثي او الحاضر بالماضي في حركة ديناميكية تشترطها قوانين التطور عموما، ومفردات العصرنة والحداثة والتنوير.
في هذا السياق تم اهمال كل التجارب والحركات التي حاولت ان تقدم استيعاب مغاير للتراث لملائمة الواقع الجديد للمجتمع العربي الاسلامي، مقابل اعلاء كل مؤلفات وبحوث ابن تيمية الحرّاني في الرفوف الاولى في قرائته للنصوص التراثية.

سمير السعيدي
[email protected]