أخيراً، قرر توني بلير الخروج من 10 دوانينغ ستريت، مقر رئيس الوزراء البريطاني في لندن، بعد عشر سنوات في السلطة. يخرج من المقر تلاحقه لعنة العراق. سيغادر بلير رئاسة الوزراء في السابع والعشرين من حزيران ndash; يونيو المقبل. سيجد، على الأرجح، وظيفة في القطاع الخاص تدرّ عليه أضعافاً مضاعفة ما كان يدرّ عليه موقعه كرئيس للوزراء. ألاّ أن البريطانيين لن يتذكروا من رئيس الوزراء الشاب، الذي أستطاع في العام 1997 وضع نهاية لحكم المحافظين الذي أستمر ثمانية عشر عاماً، سوى أنه جاء لبلاده بنسمة هواء منعشة وغادر السلطة في ظلّ غيمة سوداء تخيم على بريطانيا... سببها حرب العراق!
لم يعرف البريطانيون رئيساً للوزراء يمتلك ذلك المقدار من البراغماتية، حتى لا نقول الأنتهازية. يكفي لتأكيد ذلك أن بلير العمالي الذي أنتصر في ثلاثة أنتخابات متتالية أستخدم مارغريت تاتشر التي أعادت الحياة ألى حزب المحافظين، في السبعينات من القرن الماضي، كي يهزم ثلاثة من الذين خلفوها في زعامة حزب المحافظين. على رأس هؤلاء جون ميجور. لم يتردد توني بلير في تغيير أسم حزب العمال ألى quot;حزب العمال الجديدquot;، ليؤكد لكل من يعنيه الأمر أنه أتخذ قراراً بدفن الحزب القديم الذي يؤمن بالأشتراكية وأنه الخليفة الشرعي لمارغريت تاتشر، رمز السياسات المحافظة، الملقبة بquot;المرأة الحديدquot; وبانية بريطانيا الحديثة ومحطمة سطوة نقابات العمال على الحياة الأقتصادية البريطانية.
أستطاع توني بلير الظهور بمظهر حامي أرث تاتشر. ولذلك كانت الشركات الكبيرة تدعمه، علماً أن هذه الشركات كانت تميل تقليدياً ألى المحافظين. أكثر من ذلك، غيّر بلير الخريطة السياسية الداخلية في بريطانيا كلّياً معتمداً قبل أي شيء آخر على النجاح الأقتصادي للدولة العظمى والأمبراطورية لم تكن تغيب الشمس عنها في الماضي ... وعلى القوانين الليبيرالية التي حوَلت لندن ألى سوق مالي مهم أن لم يكن الأهم في العالم ألى جانب نيويورك. لم يعد هناك شيء أسمه أشتراكية أو قوانين أشتراكية ولم يعد هناك نفوذ يذكر لنقابات العمال التي قمعها حزب العمال في عهد بلير على الطريقة التاتشرية! أدرك بلير أن العالم تغيّر وأن الأقتصاد القوي في أساس السياسة . ولذلك، أستمر في موقعه طوال هذه الفترة بغض النظر عما أرتكبه من أخطاء... وحتى مخالفات ذات طابع شخصي من نوع فضيحة الحصول على أموال في مقابل توزيع ألقاب ملكية. بعد هذه الفضيحة، حققت الشرطة مع بلير ويمكن أن تحقق معه مجدداً!
وظَف توني بلير في النهج الليبيرالي وفي توفير ضمانات لكل من يستثمر في بريطانيا أو يعمل فيها. ولذلك نجد في لندن اليوم عشرات آلاف العائلات الفرنسية التي يعمل أربابها في ظروف أفضل بكثير من تلك المتوافرة في باريس أو المدن الفرنسية الأخرى.
أذاً، سمح النجاح الأقتصادي لبلير بأن يتجاوز أيضاً أزمات وفضائح كثيرة بما في ذلك تلك التي تناولته شخصياً مع زوجته أو تلك التي كان أبطالها من القريبين منه مثل صديقه الشخصي الوزير بيتر مندلسون الذي أضطر في كانون الثاني- يناير من العام 2001 ألى الأستقالة من الحكومة للمرة الثانية والأخيرة بعدما تبين أنه تدخل لتمكين رجل أعمال كبير من أصل هندي (سيرشاند هيندوجا) من الحصول على جواز بريطاني... أستقال مندلسون، ووجد له بلير موقعاً في الأتحاد الأوروبي ولم تتأثر شعبية رئيس الوزراء الذي تبين أنه أرتكب بدوره مخالفات كثيرة تغاضى عنها البريطانيون ما دام الأقتصاد بخير وما دامت الضرائب في حدود معيّنة، أي في الحدود التي رسمتها تاتشر بعد توليها السلطة في العام 1979.
جديد الأسابيع القليلة الماضية أنّ البريطانيين بدأوا يظهرون نوعاً من التضايق من بلير الذي كان وعد في الماضي بأنه لن يبقى في موقع رئيس الوزراء حتى نهاية ولايته الحالية وحلول موعد الأنتخابات العامة في السنة 2009 ، على الأرجح،أو في أيار ndash; مايو 2010 في أبعد تقدير. كان مطلوباً أن يسلم بلير موقعه لوزير المال غوردون براون، لكنه ماطل في ذلك. الآن، يبدو أن الكيل طفح وأنه أذا كانت عشر سنوات في السلطة لم تهدد وضع بلير، فأن القلق الشعبي حيال الوضع العراقي بدأ يؤثر عليه وأخرجه من 10 داونينغ ستريت .
صار هناك مسؤولون بريطانيون يسعون ألى أيجاد مسافة بينهم وبين رئيس الوزراء. أحد هؤلاء جيف هون وزير الدفاع أبان الحرب على العراق. في مقابلة له نشرتها صحيفة quot;ذي غارديانquot; قبل أيام تحدّث هون، وهو صنيعة بلير، عن سوء تقدير الحكومة البريطانية للوضع العراقي، خصوصاً في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدّام حسين. قال هون، الذي لا يزال وزيراً للشؤون الأوروبية في الحكومة الحالية، أن البريطانيين أرتكبوا أخطاء أذ كانوا يعتقدون أنّهم سيستقبلون بالورود في العراق. ولم يحمّل بلير وحده المسؤولية عن هذه الأخطاء، بل أشار ألى خلاف حصل بين حكومته من جهة والأدارة الأميركية من جهة أخرى في شأن قراري حلّ الجيش العراقي وأجتثاث حزب البعث من جذوره.
ما يكشفه كلام هون، أن هناك رغبة لدى كثيرين من المسؤولين في عدم تغطية المغامرة العراقية لبلير كما كان يحصل في الماضي عندما أستقال الوزير روبن كوك من الحكومة أحتجاجا على الحرب. وقتذاك، أي في آذار- مارس من العام 2003 تاريخ بدء الحملة العسكرية على العراق، لم يتأثر بلير بأستقالة وزير خارجيته، بل وجد على وجه السرعة من يحل مكان كوك الذي توفى لاحقاً وفي قلبه حسرة خلقتها حرب العراق...
في بريطانيا، كما في العالم يقفز السياسيون من السفينة حين يتأكد لهم أنها تغرق. السياسيون في بريطانيا يريدون أن يغرق توني بلير وحده لا أن يغرقهم معه. أنها نهاية سياسي محنّك بلغت به الأنتهازية أن يخوض الأنتخابات ببرنامج خصومه وأن يستمر في الربح مقلّداً هؤلاء الخصوم. يبقى الفارق الأساسي بين بلير وتاتشر أن الأخيرة ربحت حرب العراق الأولى التي أقتصرت على تحرير الكويت من الأحتلال. من الآن، يتكهن عسكريون أميركيون كبار بأن الحرب الأميركية- البريطانية على العراق كانت حرباً خاسرة. لن يذكر التاريخ بلير بسبب الأنجازات الكثيرة التي حققها وآخرها أتفاق سلام في أيرلندا الشمالية. سيظل أسمه مرتبطاً بالعراق، بلعنة لن تفارقه، بحرب يقول الجنرال مايكل روز قائد القوات الخاصة البريطانية ألى ما قبل فترة قصيرة، أنها quot;أنتهت بهزيمةquot; بريطانية وأميركية وأن على quot;الغزاةquot; مغادرة العراق! تحدّث الجنرال روز ألى هيئة الأذاعة البريطانية (بي.بي.سي) قبل أيام عن فشل المغامرة الأميركية ndash; البريطانية في العراق. عكس كلام الجنرال روز رأي المؤسسة العسكرية التي تدعو ألى quot;الأعتراف بالهزيمةquot;. ما فعله بلير أنّه هرب من الهزيمة بدل الأعتراف بها تاركاً حزب العمال يتحمل وزرها. حتى في خروجه من السلطة، مثّل توني بلير ذروة الأنتهازية...
- آخر تحديث :
التعليقات