شرفت في صباي بمعرفة المعلم quot;أبو المجدquot; الذي بدأ حياته مجرد عامل بناء صعيدي، ما لبث خلال سنوات قلائل أن ذاع صيته كرجل عصامي أصبح أحد كبار المقاولين في مصر، ولم يكن هذا هو السبب الوحيد لشهرته في أوساط quot;المعمارجيةquot;، بل كان هناك سبب آخر هو تخصصه في بناء الكنائس، فقد كان الرجل الذي quot;يفك الخطquot; بالكاد موضع ثقة إخواننا الأقباط بدءاً من رأس الكنيسة إلى عوام الأقباط فكانوا يفضلونه حتى على كبار المقاولين والمهندسين الأقباط في بناء الكنائس، وهكذا تراكمت لديه خبرات هائلة في هذا المضمار، وظل يشارك في بناء وترميم عشرات الكنائس حتى آخر يوم في حياته، ولا أنسى يوم وفاته حين كان عدد المشاركين في جنازته من الأقباط يتجاوز عدد أبناء قبيلته quot;الصعيديةquot; الكبيرة .
المعلم quot;أبو المجدquot; لم يشارك أبداً في مؤتمرات لحوار الأديان، ولم ينظم موائد quot;الوحدة الوطنيةquot;، ولم ينطق عبارة quot;النسيج الواحدquot;، لكنه كان يتصرف وفق معناها بتلقائية المصري البسيط الأصيل، الذي يرى الكنيسة بيتاً من quot;بيوت اللهquot;، شأنها في ذلك شأن المسجد، ولم يكترث يوماً لغمز المتعصبين أو إرهاب المتنطعين، بل مضى الرجل يؤدي عمله بإخلاص شهد له به كل من عرفه، ومع ذلك فقد ظل أيضاً مسلماً يؤدي صلواته حتى لو اقتضى الأمر في رحاب الكنيسة، وعلى مرأى ومسمع من رجال الإكليروس، الذين لم يبدوا امتعاضاً من ذلك بل على العكس، كانوا يحترمون تمسك الرجل بدينه وحرصه على أداء فرائضه.
هذا النموذج السمح انقرض تقريباً، وصارت ذهنية الغوغاء تحكم الجميع، حتى أصبح مشهداً متكرراً ازدادت وتيرته خلال السنوات الماضية على نحو لم تعد تجدي معه عبارات المجاملة وقبلات القساوسة والمشايخ وإنكار السلطة المزمن لوجود توترات طائفية، كان أحدثها ما جرى في قرية quot;بهماquot; بالعياط، وهو بالتأكيد لن يكون الأخير، بل هو مجرد حلقة في سلسلة طويلة تبدأ وفق نفس السيناريو السخيف المخيف، أن يشرع بعض الأقباط في بناء أو ترميم كنيسة حتى يثور الدهماء بتحريض من أبواق التطرف ويحرقون منازلهم ويقتلون أو يصيبون من ألقت به المقادير في طريقهم من المسيحيين، وكل مرة تبادر السلطات لفرض الأطواق الأمنية على مسرح الأحداث، وتلقي القبض على نفر هنا وهناك، وتدخل القصة دهليز الصمت، في رهان على النسيان وإعمالاً لنظرية quot;عفا الله عما سلفquot;.
وإذا كان الله بواسع رحمته أن يعفو وأن يغفر، فإن البشر عادة لا يفعلون، فمن حرق منزله أو أصيب ابنه أو تعرض متجره للتخريب لا يصح أن نطالبه بتجاوز مخاوفه بهذه البساطة، وأن يصدق عبارات التطمين الرسمية السمجة، فالواقع أن الأمر لم يعد هكذا، وليس من الحكمة أن نترك النيران تشتعل ثم نتحدث عن بطولة quot;رجال الإطفاءquot;، إذ أن أسباب هذه المصادمات الطائفية لم تزل مستعرة تحت الرماد، وبصراحة من حق الأقباط أن يتوجسوا خيفة، فالأقليات بطبيعتها حساسة خاصة في ظل تنامي المد المتطرف على نحو واضح في سلوك الناس، وإزاء المعالجات العقيمة التي تلجأ إليها الحكومات المتعاقبة، التي تتصدى لهذا الأمر أمنياً فقط، رغم أنه سياسي بامتياز وينبغي التعامل معه في إطار من الشفافية والمكاشفة دون التفاف أو إنكار، وإلا فعلينا أن نتوقع تطرفاً مضاداً ربما يقود البلاد والعباد إلى ما هو أسوأ، لاسيما وأن الظروف الدولية تغيرت ولم يعد مستساغاً أن نركن إلى نظرية quot;الشأن الداخليquot;، فقضايا العراق ولبنان ودارفور وغيرها كلها شؤون داخلية، لكن ما لا يريد بعض الساسة المتكلسين أن يفهمه أن هذه الفكرة نسفت من جذورها، وأن quot;درء المفاسد مقدم على جلب المصالحquot;، فما بال أنه لا توجد هناك أي مصلحة في التهاون مع المحرضين على إخواننا وشركائنا في الوطن، مع ضرورة التأكيد هنا على حقيقة تاريخية وإنسانية مؤداها أن الأقباط ليسوا جالية أجنبية، فهم وإن كانوا أقلية دينية لكنهم من صلب هذا الوطن وطينه وسكانه الأصليين، واستطاعوا خلال ألفي عام أن يحافظوا على وجودهم، وأن الأوهام التي تراود خيال بعض المرضى بمحوهم من خريطة مصر هي هراء، لن يسمح به عقلاء المسلمين قبل الأقباط أنفسهم .
وللحديث بقية
[email protected]