وسط الرياح الطائفية الهوجاء التي تعصف اليوم بالعراق وعموم العالم الإسلامي، و في خضم الزوابع الدموية المرعبة التي تثيرها تيارات الكراهية و التكفير و النحر و الموت المفخخ الموجه ضد الفقراء و المحرومين، ووسط نيران التحريض الطائفي المريض المنطلق من منابر إعلامية تدعي الدفاع عن الرأي و الرأي الآخر و لكنها مكرسة بالكامل لتنفيذ أجندات فتن طائفية رهيبة و زرع بذور الشقاق و الفتنة بين مكونات الشعب الواحد و التي تمجد فرق الموت السلفية الضالة و تدافع عن القتلة و المجرمين و اللصوص تحت شعارات المقاومة و التحرير، أكتب اليوم جزءا يسيرا من تجربتي الشخصية وسط نيران المحرقة الطائفية، وهي تجربة أعتبرها ثرية و غنية و تعبر عن مرحلة تاريخية صعبة هي من أشد مراحل تاريخ العرب الحديث تحولا و أهمية ؟ إنها تجربتي الخاصة جدا في العيش وسط إخواني من شيعة العراق الذين تشرفت معهم بالنضال من مختلف المواقع لمقاومة الفاشية البعثية و نظام الموت البعثي البائد وسط ظروف كانت أكثر من صعبة، فقد تكاثرت في الآونة الأخيرة المنشورات التحريضية المريضة التي تقدح في ولاء وووطنية وإنسانية بل وعبادات شيعة العراق، وهي منشورات عدوانية رخيصة و غبية ترافقت مع حملات تفخيخ إنتحاري مفجعة و جبانة هدفها الوحيد قتل الشيعة لمجرد كونهم شيعة مصورين إياهم بكونهم رمزا للخيانة و الغدر.. فأين الحقيقة ؟.. إنني أتحدث من واقع الملامسة المباشرة و التفاعل القريب جدا وهو تفاعل وفر لي معرفة حقيقية بكل الدواخل و المشاعر الحقيقية للمناضلين الشيعة في العراق الذين حملوا راية الحرية و إنهاء الإستبداد.
صعود الفاشية البعثية في العراق
لم يحل منتصف عام 1979 حتى كان العراق على موعد قاسي و غريب مع القدر، ففي تموز/ يوليو من ذلك العام و في السادس عشر منه على وجه التحديد أعلن في بغداد و بشكل مفاجيء عن تنحي الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر و تسليم الراية لنائبه في مجلس قيادة الثورة صدام حسين و إنهاء صيغة القيادة المشتركة برأسين و التي إستمرت منذ بداية السبعينيات وحيث كان صدام رجل العراق القوي و لكن ليس إلى الدرجة التي يستطيع فيها تقرير ما يشاء!، فقد كانت هنالك مراكز قوى حزبية و سياسية أخرى ما زالت فاعلة وكان الرئيس البكر يملك زمام الأمور رغم إحاطته بجواسيس نائبه، و كان من الواضح من فجائية التغيير من أن هنالك ترتيبات داخلية و خارجية كبرى في سبيلها للحدوث في ظل ظروف دولية و إقليمية حساسة بدأت نذر توترها منذ بداية ذلك العام في سقوط عرش الطاووس الإيراني و قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في طورها الأول و فورتها الكبرى و بما أحدث ذلك التغيير من زلزال سياسي ضخم غير الأولويات و أسس لستراتيجيات جديدة إنعكست أحوالها و تطوراتها فيما بعد على مسيرة الأوضاع في العراق و المنطقة طيلة العقدين القادمين، بدأت التطورات دموية عاصفة عبر الجهاز الحزبي البعثي الذي شملته حملة تطهيرات ضخمة شملت إعدام مجموعة من قياديي الصف الأول في الحزب من أعضاء القيادة القطرية و معهم بعض أعضاء القيادة القومية من الزعامات التاريخية للحزب تحت مظلة (كشف مؤامرة إنقلابية سورية)!! لم تكن حقيقية و بشكل فاجيء حتى السيد عبد الحليم خدام الذي زار بغداد وقتها متسائلا عن الأدلة.. فلم يلق جواب حاسم سوى الشتائم و العجيب أن حملة الإعدامات التي شملت مجموعة محمد عايش حمد الحلبوسي و عدنان حسين و غانم عبد الجليل و محمد محجوب و اللواء وليد سيرت و غيرهم الكثير كما شملت الدكتور منيف الرزاز الأردني لم نستثن حتى من كان خلف القضبان من قياديي البعث من أمثال المفكر المعروف عبد الخالق السامرائي (أبو دحام) الذي كان معتقلا في سجن المخابرات الإنفرادي منذ صيف 1973 ليسحب من زنزانته لساحة الإعدام في حدائق القصر الجمهوري صيف 1979!! و كان من الواضح أن تلك المجزرة ستكون البداية الفعلية لمجازر مهولة ستعم العراق وسط عملية بناء و تعزيز القيادة الفردية ذات الصيغة العشائرية المتخلفة، فلا صوت إلا صوت القائد! و لا صورة إلا صورة القائد الأوحد و هو السيف و الراية و الفكر و العقيدة! وهي خطوات تعيد إلى الأذهان مرحلة بناء الزعامة الستالينية المتوحشة و التي كلفت الشعوب السوفياتية ملايين الضحايا و أطنان العذاب، و كان من الواضح لكل من يمتلك ذرة من البصيرة من أن أمور العراق تتجه نحو كارثة حقيقية في ضوء التصعيد السياسي و الإعلامي و العسكري ضد إيران و مع تصاعد نشاط الحركة الدينية في العراق التي وجدت في التغيير الإيراني حافزا يدفعها للتحرك رغم أن تلك الحركة كانت موجودة و بقوة في الشارع العراقي و قد عبرت عن نفسها في أحداث (خان النص) في ربيع عام 1977 خلال مراسم عاشوراء و حيث تحركت القوة الجوية العراقية!! لمواجهة تظاهرات المحتجين؟ و حيث حدث أول تمرد علني في حزب البعث على خلفية المحكمة الصورية التي شكلها النظام لمحاكمة بعض المتظاهرين و التي تردد بعض أعضاء المحكمة من البعثيين من التوقيع على عقوبات الإعدام الجاهزة معتبرين أن القضية لا تستحق كل تلك القسوة!! و قد كلف هذا الموقف الإنساني بعض البعثيين الكثير و في طليعتهم المرحوم (فليح حسن الجاسم) الذي طرد من الحزب ثم وجد مقتولا بعد حين، و كذلك تم طرد البعثي المعروف الدكتور (عزة مصطفى العاني)!! و تحت طائلة (عدم الإنضباط الحزبي و نقص في الإيمان البعثي)!!.
في ربيع عام 1980 و كنت في السنة الثالثة من كلية الآداب طرح علينا أستاذنا المحاضر في تاريخ الخليج العربي وقتها الدكتور مصطفى عبد القادر النجار الأمين العام الأسبق لإتحاد المؤرخين العرب سؤالا حول (تعريفنا و فهمنا للثورة الإيرانية)؟ ثم إستدرك سريعا ليقول : أن ما حصل في إيران يمثل ثورة السوق (البازار) الذي تحرك لمساندة المرجعية و رجال الدين و الثوار، مؤكدا أن ما حصل في إيران لا يمكن أن يسمح (حزبنا) حزب البعث بتكراره في العراق مهما بلغ الثمن ؟؟؟ وفعلا بعد أسابيع قليلة حدثت التسفيرات العشوائية و حملات التهجير الكبرى و نزع الجنسية العراقية عن كبار التجار و رجال الأعمال العراقيين من الطائفة الشيعية و جردوهم من كل شيء و رموهم خلف الحدود بعد مصادرة كل مصانعهم و أملاكهم و بطريقة لم يستنكرها العالم الحر وقتذاك و مرت الجريمة مرور السحاب ؟ ثم أتبع ذلك بحملة تسفيرات ظالمة طالت العديد من العراقيين بحجة أن أصولهم إيرانية منذ أكثر من قرنين ماضيين؟ رغم أن عمر العراق الحديث لم يكن يتجاوز وقتها النصف قرن!! و كانت مهزلة بطعم المأساة الرهيبة و الغريب أن آلاف العوائل العراقية العربية الكريمة قد هجرت تعسفيا بعد أن تم إحتجاز أبنائهم الذين كان مصيرهم الإعدام أيضا كما عرف فيما بعد!! و كانت جريمة كبرى سكت عنها العالم الحر و لم يناقشها أحد حسب علمي حتى اللحظة!، ثم أشعل النظام البائد حربا لم تكن حتمية و لا ضرورية مع إيران تحت عباءة الشعارات القومية المستهلكة و حيث أرادها البعثيون حربا خاطفة على الطريقة الإسرائيلية رغم عقم المؤسسة العسكرية العراقية التي كانت ملاذ الفاشلين دراسيا الذين تحولوا بحرة قلم لجنرالات!! في مهزلة فاقت المأساة وحيث أضحت تلكم الحرب أكبر بالوعة لهدر دم الشباب العراقي، وقتها غادرت العراق للكويت هربا من الحرب و الفاشية و الدمار اللامتناهي الذي أجهز على مقومات الدولة و المجتمع في العراق، في الكويت حدثت تجارب و عبر و دروس و كانت الخاتمة في نهاية عام 1983 بعد التفجيرات التي دبرها عملاء النظام الإيراني هناك في 12/12/1983 وجدت نفسي معتقلا مع العديد من العراقيين (الشيعة) في معتقل الإبعاد السابق في قصر نايف (محافظة العاصمة حاليا) و رغم أن قضيتي كانت مخالفتي لقانون الإقامة إلا أنني في تلك الظروف الصعبة تنقلت بين السجون لأشاهد كل فصول قصة درامية تصلح كفيلم هندي أو مصري على طريقة المرحوم المخرج (حسن الإمام)، ففي سجن الإبعاد وعندما عرف الزملاء من أنني سني المذهب و معتقل معهم في نفس التهم الموجهة لهم أعربوا عن عظيم إحترامهم و أجتهدوا لمواساتي رغم أنهم في أسوأ حال و كانوا على الدوام يرددون ذلك الدعاء الإيماني الجميل : (أ من يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء)!! و إن نسيت فلن أنسى مواقف آل الحيدري الكرام في ذلك السجن، بعدها أخلي سبيلي ليتم إعتقالي مرة أخرى يوم 25/12/ 1983 ولكن هذه المرة في سجن المباحث الجنائية في السالمية وهناك وجدت العشرات من العراقيين الذين خاف بعضهم مني متصورا بأنني جاسوس مدسوس عليهم! ثم لما عرفوا الحقيقة عاملوني بكرم لا نظير له وكان من الزملاء هناك المرحوم الشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين و الشيخ المرحوم جواد السهلاني و الدكتور صباح جمال الدين و غيرهم العشرات، و كانت محنة تاريخية أتذكر بعد ربع قرن كل تفاصيلها الفرعية، و في الشام كان نشاطي السياسي وسط الشيعة و لم أر منهم إلا كل خير و محبة وود، وقصتي في الشام قصة طويلة و متشابكة و درامية بكل معنى الكلمة، بعدها قررت الرحيل صوب إيران ذاتها وحيث وضعني إخواني الشيعة موضع الشغاف من القلب و كانوا عنوانا للكرم و الشهامة العربية و العراقية المعروفة، وهناك في (قم) عشت فترة و أنا العراقي العربي السني من أخصب فترات حياتي و أكثرها تجربة و معرفة و عايشت معاناة الشباب العراقي المتعب الذي كان يحفر في الصخر من أجل العيش بكرامة و مقاومة كل التحديات كما تابعت مآسي الذين قتلوا في جبهات الحرب ليدفنوا في مدافن الغرباء، كما تعايشت مع معاناة آلاف العوائل العربية العراقية المهجرة التي كانت تبكي وطنها في أتعس الظروف و تتشوق للعودة إليه بعد رحيل الفاشية، لم أر من شيعة العراق في المهجر الإيراني إلا كل حب وود ووفاء للعراق و شعبه، ولم يكن للهوية الطائفية في تقديرهم أي إعتبار، و كانوا صابرين على البلوى متذرعين بالصبر و الدعاء من أن ينتقم الله من الظلمة و الطغاة، لم يكن شيعة العراق في إيران طابورا خامسا أو فريقا شعوبيا أو تيارا حاقدا، بل كانوا عنوانا للعراق الموحد وهم يعيشون أعظم المعاناة و أشدها بلاء و قسوة و ظلم...
كانت تلك لمحات عابرة لمشاعر و إنطباعات عشتها و عايشتها تفصيليا تؤكد من أن كل دعايات و أراجيف الطائفيين و التكفيريين ما هي إلا سموم رخيصة لعناصر مجرمة عدوة للبشرية، فشيعة العراق كانوا و ما زالوا رمزا من رموز العراق الموحد، فالقوم الذين يؤمنون و يشايعون إمام المتقين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الكريم لا يمكن أن يتصفوا بالخسة و الغدر، وهو القائل:
والله ما معاوية بأدهى مني.. و لكنه يغدر و يفجر)!! و أخلاق أهل بيت النبوة لا يمكن أن يكون للغدر فيها موضع... شيعة العراق كسنته و مسيحييه و كل أقلياته عنوان للحب و التآلف و التسامح، و ستعود الأيام الجميلة لا محالة، فتيارات الشر و الموت ستنحسر مهما طال العذاب... إنها ذكريات سريعة و عابرة لمرحلة لم تكن سهلة، بل كانت حافلة بكل منعطفات التاريخ الحادة و المؤلمة.
التعليقات