قال أحدهم:

وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكــاء

لابد أن نتحلى بالصبر الجميل، وقد يلزمنا أيضاً مخزون من أدوية ارتفاع ضغط الدم، ونحن نستمع لتصريحات من يقدمون أنفسهم على أنهم مثقفون ومفكرون، بل وأسس بعضهم منظمة على بابها لافتة تدعو لأن نكون سواسية، وتدعي تخصصها في الدفاع عن حقوق quot;الإنسانquot;، وقد وضعنا كلمة إنسان بين قوسين، فالشعب المصري كله يعرف أي quot;إنسانquot; تخصصت هذه المؤسسة في الدفاع عنه، كما نعرف تاريخ السادة مؤسسيها، وأنهم قد صاروا الآن وأخيراً مواطنين صالحين، بعد أن كانوا أعضاء يشار لهم بالبنان في منظمات الجهاد والقتل.
يقول هؤلاء وأولئك أن الأقباط يستقوون بالخارج، وأن مطالبهم قد صارت بلا سقف.
يردون مثل هذا الكلام العجيب، دون حياء أو رادع من ضمير وطني أو إنساني، فيما فرق إطفاء الحرائق لم تكد تغادر حواري قرية بمها ndash; العياط، والتي أحرقها الغوغاء الخارجين لتوهم من صلاة الجمعة، على رأس من فيها من أقباط بسطاء وفقراء، لمجرد اتهامهم بتوسيع كنيستهم أو مكان عبادتهم!!
مطالب الأقباط صارت بلا سقف، فقد تجرأوا على المطالبة بحق عودة من ترك المسيحية وأسلم إلى دينه الأول متى شاء ذلك، أي طالبوا بالمساواة في حرية ترك المسيحية والإسلام، فقط بالنسبة لمن كان مسيحياً بالأساس، وليس لجميع المواطنين (فهذا الأخير أمر لا يخص الأقباط بصفتهم أقباط).
مطالب الأقباط صارت بلا سقف، فهم يريدون حرية بناء كنائس يصلون فيه إلى الله، على نفقتهم الخاصة وليس من أموال الضرائب التي يؤدونها للدولة المصرية.
مطالب الأقباط صارت بلا سقف في نظر السادة المتثاقفين والمتأسلمين والإرهابيين التائبين، حين ارتفعت أصواتهم مطالبة بأن يكون الدين لله والوطن للجميع، وهو الشعار الذي رفعته الجماهير مما يقرب من قرن مضى، وتجاوزوا الحدود حين قالوا أنهم لن يقبلوا بعد أن يكونوا أهل ذمة، وإنما مواطنون في وطن نملكه جميعاً، بغض النظر عن الدين والطائفة، وطن يحكمه قانون حديث كسائر الأمم المتقدمة، يراعي في المقام الأول حقوق الإنسان . . كل إنسان.
هذا هو ما حدث من تجاوز إجرامي للسقف الذي حدده السادة الأفاضل لأخوة الوطن من الأقباط، وأرادوا لهم أن يسيروا تحته أبد الدهر، مطأطئي الرؤوس، محنيي الظهور، السقف الذي يعز تجاوزه على السادة الذين يتشحون برداء الاستنارة، وهم يغازلون في نفس الوقت تيار التخلف والتعصب، المصرة على النزول بالوطن إلى الحضيض، كما تستفز مطالب الأقباط تلك أصحاب الأقلام المتخصصة في تجميل الوجه القبيح لتلك الجماعة المحظورة، المحرك الأوحد لكل ما حل ويحل بمصر من مآس ومذابح وأعمال نهب وتخريب غوغائية، وفوق هذه وتلك هي المسئولة عن تسميم المناخ المصري الأصيل، المتسامح بالأساس والفطرة، وعن زرع التعصب والكراهية في شعب لم يعرف قبلهم غير المحبة والسلام.
حين يغيب العقل أو يتحجر، يتلوث الضمير، فيفقد الإنسان أي بوصلة تعينه على تقييم مواقفه، فيظن نفسه يغرد، فيما هو بالحقيقة يعوي كما الذئاب.
نفس هؤلاء يتحدثون عما يسمونه استقواء الأقباط بالخارج، ولا يستشعرون العار الذي يلحق بهم مما يقولون، فاتهام الأقباط بالاستقواء يعني اعترافهم بأن الأقباط مستضعفون، إخوانهم في الوطن مستضعفون، ومن الذي استضعفهم غير الفاشية وأيديولوجيات القهر والاستكبار والتعصب والظلامية؟!!
الجميع مشاركون إيجابياً أو سلبياً في جريمة التضييق على الأقباط أو تهميشهم، ثم يأتي المدان ليتهم أخوته في الوطن بالاستقواء بالخارج، دون أن يمتلك ما يكفي من الصدق مع ذاته، ليحدد إن كان ما يزعجه حقاً هو ما يدعيه من لجوء لطرف خارجي، أم أن ما يزعجه هو أن تصرخ الفريسة وهي بين أنيابه، مما يتسبب في تعكير مزاجه، أو يستشعر التهديد بأن تفر من بين مخالبه الرحيمة المقدسة؟!!
لن نحدِّث هؤلاء عن أمور لا يفهمونها، لأنها تعلو ربما عن مستوى تحضرهم (أو تخلفهم)، عن أن حقوق الإنسان لم تعد أمراً داخلياً أو محلياً، يقيِّمها كل على هواه، بل صارت قضية مقدسة لكل إنسان على سطح كوكبنا، وقد وقعَّت جميع الشعوب والدول على مواثيق الالتزام بها، ومن ينحو في عكس اتجاهها يخرج بنفسه وبشعبه خارج التاريخ، ويسقط من اللحظة الراهنة إلى غياهب الماضي المظلم.
لم يعد من حق أي أغلبية أو حكومة أن تعدل كلمات الأغنية الشعبية المصرية، لتصير كلماتها: quot;أقليتي وأنا حرة فيها . . أقليتي أغلسها وأكويهاquot;!!
تماماً كما أنه ليس من حق الفاشية البعثية وعملائها في لبنان، أن تغتال من تشاء من المفكرين والسياسيين ورئيس وزراء، ثم تعتم على تلك الجرائم، دون أن يتدخل المجتمع الدولي، ليفرض العدالة التي انتهكناها، والإنسانية التي افتقدناها!
ليس من المجدي أيضاً أن نذِّكر السادة المبررين والمتحدثين باسم التطرف والتعصب أن الاستقواء بالخارج ليس نهج مهاجري الأقباط فقط، لكنه أيضاً نهج حكوماتنا الرشيدة لتوفير قائمة من متطلبات الحياة لشعبنا، بداية من الخبز وحتى الدواء.
إذا كان بضع مئات أو آلاف من أقباط المهجر، والذين تركوا بلادهم هرباً من ضيق العيش الذي يرزح تحته المصريون كافة، ومن التضييق والتهميش الذي يعاني منه الأقباط خاصة، إذا كان هؤلاء يصرخون ويستصرخون الشعوب والدول التي يعيشون فيها وحملوا جنسيتها، من أجل من بقى من أهاليهم بمصر، ومن أجل مصر حرة لجميع أبنائها، فما هو رد الفعل المنطقي تجاه ذلك، ممن يحب مصر وكل أهلها بحق وإخلاص؟
أن نقف عند حد التنديد والتشنيع بهؤلاء، ويبقى حال مصر على ما هو عليه؟!
أم نسارع لمداواة أخطاءنا وخطايانا، لنكون قد أرحنا أنفسنا، وأرحنا المخلصين من هؤلاء الصارخين، وسددنا الطريق في وجه المتاجرين منهم بالقضية، أو من يحلو لنا أن نتهمهم بذلك؟!!
لا ندافع بالطبع عن بعض المتصايحين من أبناء المهجر، ممن تجاوزا حدود المطالبة بحقوق الإنسان، إلى دائرة التعصب والفاشية، ذات التي يشتكون منها، فهؤلاء نتاج طبيعي لمناخ مصري تمددت فيه الفاشية وأناخت.
أما أقباط الداخل، وهم الملايين الغفيرة، والتي يعتبر عددها حتى الآن سراً عسكرياً رهيباً، لا يصح لأحد الاضطلاع عليه، رغم أن العدد لا يغير من الأمر شيئاً، فحقوق المواطنة والإنسان هي هي، حتى لو كانت لشخص واحد، أو لبضعة عشرات، كما هي حال البهائيين، هؤلاء الأقباط لا شأن لهم بالخارج ولا يعرفون طريقه، وإن كان هناك استقواء منهم، فيما يبدو للسادة مبرري ومنظري الفاشية الدينية، فهو استقواء بإخوانهم في الوطن من المسلمين المستنيرين.
استقواء بالملايين من المصريين المسلمين البسطاء الأنقياء، الذين لم تصل إليهم بعد فيروسات الكراهية والتعصب، التي تم استيرادها من بوادي الجهل والجهالة.
استقواء برياح الحرية التي تهب على مصر الآن من جميع الاتجاهات، فالمرأة تنادي الآن بحقوقها المسلوبة، والعمال يتظاهرون ويعتصمون ككل عمال العالم الحر، وحركة كفاية ترفع شعارات كانت من سنوات قليلة تصنف كمحاولة لقلب نظام الحكم، فلماذا يا سادة تنكرون على الأقباط حقهم في التمتع بذات قدر الحرية المتاحة لكل أبناء مصر، لماذا تريدونهم أن يلتزموا الصمت صاغرين لقدرهم الذي تفرضونه عليهم؟!!
ألم يعد الكثيرون منكم من وراء الشمس، ليمارس حرية الكلام، وربما أيضاً حرية إفساد الثقافة ومناخ التسامح المصري؟!!
المواجهة ليست بين المسلمين والمسيحيين، لكنها بين المصريين البسطاء الطيبين باختلاف عقائدهم، وبين دعاة التخلف والتعصب والقهر.
هي معركة إنقاذ الشعب المصري كله من براثن الفاشية المتسترة برداء الدين، بعد أن سقطت الفاشية العروبية التي استمرت ما يقرب من ربع قرن، ممهدة الطريق لخليفتها الأشد وطأة.
سوف تشرق شمس الحرية على مصر بكل ما تضم من ألوان الطيف العقائدي قريباً، بل وأقرب مما يتصور دعاة الظلام والإظلام!!

[email protected]