لو سئلت بماذا يفترق العربي عن سواه، لقلت: بتكرار الأخطاء، تكرارها إلى ما لا نهاية. ولو سُئلت: لماذا، لاحترتُ قليلاً، ثم أجبت: ربما لأنه كائن شفوي يعيش في مجتمع شفوي تحكمه دولةٌ شفوية.
إنه تعميم مرّ، لكنه غير ظالم، كمعظم التعميمات والاختزالات الأخرى التي يأنف منها الباحثون الرصينون.
العربي يا سادة ينسى، لأنه ينتمي إلى ثقافة شفوية. والنسيان هو العلة الأولى لتكرار الأخطاء وتحوّلها إلى خطايا. تقاليد مراكز الأبحاث، وتقاليد التدوين والمراجعة، البحث والاستقصاء والتمحيص، استخلاص النتائج، لم تصله بعد، كما يجب. وبالتالي لم يصله quot; العقل النقدي quot; المصاحب لها. العقل النقدي الذي هو السبب الأول لعدم تكرار الأخطاء عند الأمم والشعوب الأخرى.
لا يزال الكائن العربي يرتع في ثقافة الصحراء، ولا تزال الشفاهة هي عمود وجوده الأرضي، حتى لو سكن القرن الحادي والعشرين. لا يزال يجنح للتبسيط، ويختار الحلول الوقتية الأسهل، فقط لأنها أسهل.
صارت له دول كسائر المواطنين في العالم، وصارت له وزارات ومؤسسات، وجيوش من الموظفين، وألوف من الباحثين، ومع ذلك، ظلت هذه الأمور quot;الحديثةquot; في نطاق ومقام المظهر لا الجوهر. هياكل عظمية معزولة عن بعضها البعض، وبحاجة إلى ملئها بالدم واللحم والأعصاب، وفوق ذلك بالسيستم والوعي. فهو لديه مراكز أبحاث وتخطيط، لا تبحث ولا تخطط. وإن حدثت المعجزةُ وبحثت وخططت، فلا أحد يهتمّ بما تقول، لا المستويات العليا من الدولة ولا الدنيا. مراكز بالاسم، لا بالفعل: بالظاهر لا بالباطن. مراكز لزوم الديكور يعني.
مفرغة من داخلها، ومفرغة من رسالتها، ومفرغة من إمكاناتها أولاً وقبل كل شيء. ولن أسترشد ها هنا بإحصائيات محبطة عن ميزانياتها، أو بمقارنات أكثر إحباطاً مع نظيراتها في الدول الأخرى، فالكل يرى ويعرف. والكل ينفض يديه وكأنّ المسألة مفروغ منها: لعنة قدرية أو مصير إغريقي لا فكاك منهما. نعم: الكل يرى ويعرف، لكن المشكلة، أنّ الكل لا يحرّك ساكناً ولا يريد أن يغيّر. فهو نشأ على ذلك، وتعلّم في هذا الاتجاه وتعوّد عليه دون سواه، لذا لا يرى حاجة جادة للتغيير. وما حاجته للتغيير وهو يعيش يوماً بيوم، ولا ينظر أبعد من أرنبة الأنف ؟ إنّ لسان حاله يقول: ما دامت النار بعيدة عن غرفة نومي فأنا بخير. يقولها المواطن البسيط والعالم والجاهل وصولاً ربما إلى الملك أو الرئيس. فالكل في الهواء سواء. مع أنّ هذا غير صحيح بالمطلق. فالنار القادمة تقترب كل يوم، وما لم يُنتَبَه لها، فستأكل الأخضر واليابس، ولن تترك الذين أمامها إلا كما يُتركُ الرماد في المواقد.
أقول هذا الكلام بمناسبة عقد (المركز الأكاديمي متعدد المجالات) لمؤتمره السنوي الأخير في مدينة هرتسليا، أوائل هذا العام، وخروجه بحزمة من التوصيات والرؤى الاستراتيجية، تضم خلاصة ما تراه النخبة الإسرائيلية، على اختلاف أنواعها وأماكنها، من حلول ونظريات ورؤى تهمّ المجتمع والدولة داخل إسرائيل.
كما أقوله أيضاً بمناسبة تقرير فونوغراد الأخير، الذي صدر قبل أيام. لأضع القارئ العربي أمام دولة ومجتمع يفكران على نحو علمي خالص، لا مجال فيه للبلاغات الكاذبة، ولا لدفن الرؤوس في الرمال.
إن أخطأوا، بما هُم بشر، في هذه المسألة أو تلك، فثمة آليات تفضح هذا الخطأ، وترفع عنه القداسة، وتحاسب مرتكبه، حتى لو كان أكبر رأس في السلطة [ بل بالذات لأنه أكبر رأس في السلطة ] فالمسألة هي مسألة دولة وبقاء ومصير دولة وليست أبداً مسألة أشخاص. لذلك لا يتكرر الخطأ عندهم، في الأغلب، ما دام يُعالج بشفافية وعلى نحو علمي. أما نحن، فنسمي الأشياء بغير مسمياتها، ونصدق أوهامنا. فالهزيمة لدينا quot; نكسة quot;، والإرهاب الأصولي المجرم في العراق نسميه quot; مقاومة quot;، وحرب الإبادة في دارفور نسميها quot; خلاف سوداني داخلي quot;، والانتفاضة التي قضت على معظم ما كان لدينا من أسباب الحياة والبقاء والصمود، ما زلنا نسميها quot; انتفاضة مباركة quot;، مع أنها لا انتفاضة، في واقع الأمر، ولا مباركة. فقد كانت كارثة وطنية منذ بداياتها، لذا آلت إلى خراب سياسي واقتصادي واجتماعي غير مسبوق في كل تاريخنا الحديث. وكل ذلك لماذا ؟ فقط لأننا ننتمي لهذه الأمة التي تحب الأوهام لا الحقائق، ولا تريد أن تسمّي أي شيء باسمه الحقيقي. فإن خرج لهم أحدٌ ما وقال ما يراه ويُمليه عليه ضميره، اتهموه بالعمالة للغرب، وبأنه من أيتام quot; رحبعام زئيفي quot; !
يا للمسخرة ! ومع ذلك لا بأس. فقائل هذه الكلمة هو عربي شفوي ينتمي إلى أمة شفوية، مليئة بالأوهام والقداسات، سادرة في تخلّفها الدهري الطويل، ومصرة أن تظل مخلصة لماضيها الموهوم، ومخلصة لطريقتها في quot; الانفعال quot; بالعالم وليس في أن quot; تفعل quot; فيه. لذا دعونا نختم هذا المقال بالتذكير بما بدأنا به: وهو أنّ العرب أمة شفوية. كانت وما زالت. وما مراكز الأبحاث والتخطيط فيها، على ندرتها الشحيحة، إلا مجرد زوائد لا أكثر. لهذا ولغيره من آلاف الأسباب، ومن طرائق العيش الشفوي الهرطوقي، يبدو حال هذه الأمة، الآن، وهي في خضم انكشافها أمام التحديات الكونية الجسيمة، أقرب إلى حال السفينة الغارقة: مَن يلحق نفسه يهرب، ومن لا يلحق سيغرق لا محالة.
سفينة غارقة يهرب منها حتى الفئران.
التعليقات