ليست وظيفتك أن تُرضي أحداً. الكاتب الذي يكتب وعينه على نظام أو حزب أو جماعة ، ليس كاتباً ، بل موظفاً أو مشروع موظف بدرجة كاتب. وأنت منذ بدأت تكتب لم تنس هذه الحقيقة. ظلت معك في الضراء وبعض السراء. لن تخون نصّك. ولن تخدم أحداً ، لا فرداً ولا جماعة. فأنت الجماعة في فرد ، وأنت الفرد في فرد أيضاً.
ثقب الكتابة لا يتسع لرأسين معاً. ثقب الكتابة بالكاد يتسع لرأس الكاتب. إنما هذه الحقيقة لم تصل ويبدو أنها لن تصل لبعضهم. لذا تحدث التباسات ، ولذا يحدث لغط وكلام سقيم. أما سوء الفهم ، فمحمول ومقبول ، إن كان بريئاً ، ويريد صاحبه فقط أن يفهم.
إنّ بلاداً تعيش في كهف العبودية منذ آزال ، ليصعُب عليها ، وعلى فئة مُتأسلميها بالتخصيص ، أن تفهم quot; تناقضات الكاتب quot;. تناقضاته الذاتية مع نفسه أولاً ، ثم مع الآخرين والمحيط ، بعد ذلك.
فالكاتب بشر. وكل بشرٍ مشروعٌ غير مُنجَز. وبالأخص الكاتب : فهو حين يجلس للورقة البيضاء أو الشاشة البيضاء ، ينتابه إحساسه القديم الأول أمام الورقة الأولى في حياته. لغزُ البياض ، سواء في الورقة أو الذهن. فالذهن أيضاً أبيض.
يسمونها تناقضات ، وهي في الحقيقة : تحوّلات. يسمونها تناقضات بينما نزاهةُ وعدم خيانة النص تعتبرها تحوّلات.
إنّ الكاتب ليتحوّل. مثله مثل كل شيء. لكن تحوّلات الكاتب أصعب وأشقّ وأتعس من تحوّلات غيره في المجالات الأخرى. فالكاتب يتحوّل ذاتياً وجوّانياً ، تتغيّر كيمياؤه ، عبرَ الصمت والتأمل والقراءة والعيش في الزحمة والعزلة. يرتقي السلّم من درجته الأولى صعوداً نحو المجهول ، وربما ينكفئ أو يسقط بعد درجة أو اثنتين فيصل مكسوراً أو لا يصل بالمرة. كل ما في الأمر ، ومن هنا منشأ سوء الفهم ، أنّ عملية النضج والتحوّلات هذه _ وأحياناً تبديل الجلْد كما الأفعى _ تتمّ في هدوء ، بل غالباً في وحشة المُعتكَف. إنه يجاهد وحده ، مع نفسه ومع أشباحه : مع الأفكار ومع الوقائع : مع الحدث ومع زاوية النظر إليه. ترى أي الطرق أفضل ليسلكها وأي لغة ستحمله للهدف ؟ ثم ماذا إذا لم تكن ثمة غائيّة ولم يكن هناك هدف ؟ فبعض الكتابة لا ترضى لنفسها إلا اللعب فحسب : اللهو البريء مع صاحبها كضرب من التسلية والاستشفاء الشخصي لا غير.
الكاتب يتغيّر ويتحوّل. وليس في هذا ما يعيب إلا أصحاب العيب أنفسهم. فكل شيء في العالم يتغيّر ويتحوّل. لمَ نستثني الكاتب ؟
بعضهم يأتيني ويحاسبني على مقال مكتوب قبل عشر سنوات. بعضهم لم يفهم مجاز نهر هيرقليطس أبداً. الكاتب مثل نهر هيرقليطس بالضبط أو بالتقريب : تريد امتحان هذا القول ؟ طيب. دعه يكتب فقرة في الكمبيوتر ، على ألا يحفظها ، ثم اقطع عنه الكهرباء ، وطالبه بكتابة الفقرة من جديد وانظر ما النتيجة ؟ لن يكتب الفقرة ذاتها بنفس الصيغة أبداً. هذا أمر يعرفه كل الكتاب الذين يكتبون مباشرة على الشاشة. فكيف تطلبون لنهر هيرقليطس ألا يتغيّر حتى بعد مرور عشر سنوات لا عشر دقائق. هذا جنون وسوء تقدير وحماقة. الكاتب يتغيّر ، لأنّ طبيعة عمله تتطلّب ذلك التغيير. فلا نضج بلا تغيير ، ولا اقتراب من الحقيقة المراوغة بلا تحوّلات وبلا مكابدات وبلا آلام.
الحجر حتى الحجر يتغيّر ، فلمَ لا يتغيّر الكاتب ؟ ولمَ غير مسموح له بأن يقول في الصباح قولاً ويأتي بسواه في المساء ؟
أنا من ناحيتي أحترم هذه اللعبة ولا أخجل منها ، بشرط أن تحدث داخلياً ، ودون الوقوع تحت تأثير أحد أو جهة. أحب أن أقول الشيء وأنقلب عليه بعد مدة. المهم أن أكون صادقاً مع نفسي ومخلصاً لنصّي لحظة التدوين. هذا هو المقياس : المهم عدم خيانة النص. فالنص أبقى من الوسط والمحيط. الوسط والمحيط كثيفان ومعتمان والنص شفاف. شفافية النص ولا رضى المحيط الكدِر والمعتم والثقيل.
إن كل كتابة لا تخون محيطها هي كتابة منذورة للفناء. المحيط تقاليد وأعراف وأقفاص ، والنص براح مفتوح وشفافية آسرة وصيد في المجهول.
المحيط عتوّ ، والنص ضعفٌ مقدس : هشاشة لا تخون ذاتها ، حتى لو خانها المحيط. النص بالكاد يحتمل غبارك فلا توسّع فيه لغبار الآخرين. ينطبق هذا الرأي على جميع أنواع الكتابة ، حتى لو كانت كتابة الطبخ والأزياء !
بل بودّي الوصول إلى آفاق أبعد : كل كتابة لا تخون كاتبها ، لا تخون ماضيه البعيد والقريب ، ستنكفئ ، عاجلاً أم آجلاً ، إلى مصيرها الحزين : التكرار أو الاجترار.
خُن محيطك أيها الكاتب.
خُن ماضيك كمان ،
وخن حاضرك كمان وكمان.
فبغير هذه الخيانات الجميلة لن تكتب ولن تتجدّد أبداً.
بغيرها لن تدخل في المستقبل.
التعليقات