منديل العيون لِبيروت، نعم يا عزيزتي فيروز، و زرقة السماء كلّها، و أريج الورود، بيروت. فيكِ الجمال و الكلام، فيكِ الخلية و النغمة الأولى، فيك حُبَّ الكون مُذْ رَفّ رمْش الله في مكان الأمكنة، أنتِ حُبّ الحبِّ يا عروس آدون، أنتِ التي هبطت إلى عالم الأموات لِ إخراج حبيب الروح من هناك، أنتِ هي عروس السماء يا بيروت، أنتِ التي حفظت، و حافظت على علامات الحبِّ المقدّس، تلك التي سَكَبَهَا حبيبكِ آدون على دروب العشق و العشَّاق.


أنتِ يا عروس السماء، جعلتِ ملك أوروك، ابن الآلهة و البشر يضرب الحقول و الفيافي، و يهجر مملكته بحثا عن حبّكِ، و يصارع حارس أرزكِ المقدّس، الوحش الرهيب (هواوا). لقد تمزَّق الوحش، و بقَيتِ أنتِ، رحل جلجامش و أنكيدو مبتعدين عن غاباتكِ المقدّسة، و بقيتِ أنتٍ. جاءكِ بومبيوس و تيطس و كاليغولا، و نيرون، و قبلهم آخيل و رومولوس و ديكران الكبير. كلهم لم يفلحلوا في سرقة روح لبنان، و مرَّة أخرى بقيتِ أنتِ يا بيروت، يا حُبّ الدنيا و ستّ الدنيا، و مهما تناوب الغزاة عليك، لم ينالوا من نضارتك، و طراوة أرْزكِ، إلاَّ هذه الغزوة الأخيرة التي تحاول بشكلٍ جدِّي و خطير إمحاء خضرتكِ من بين أشجار البلوط و السنديان و الأرز المقدَّس، إنها غزوة القريب، و بِ سيف الحبيب المصطفى، الناطق بِ الضاد ضدَّ الحياة و ضدَّ نسائم الجهات الأربع من الكون الرحيب؛ أُصيبت بيروت الجمال بِ لعنة الظلام و النار، كانت هي هيكل النور و موئل البخور، كانت الكلمة الأولى في أعماق المتوسط، جمعها الله في لوح أوغاريت، و فَصَّلها في رأس شمرا، حين لم يكن أيَّاً من هؤلاء الغزاة قد وطأ هذه الأرض المقدَّسة. كلّ الذين تناوبوا عليكِ يا أيتها العروس التي أنزلها الله من عرشه وسط الحمرا و قمم جبل صنين، لم يخططوا لِ قَتْلِ روحكِ، إنَّما كانوا يستمتعون بِ جمالك و رائحتك و لسانكِ الجميل، إلاَّ أمَّة السيف و التوالد الأرنبي، فَ هي التي لم تقبل أحدا من غير قبيلتها، لم تقبل أحدا من غير عقيدتها، و لم تعترف بِ أحدٍ من غير ثقافتها، لذلك، فَ الواجب الإلهي المقدَّس لديهم، أو بِ الأصحّ، الأمر الإلهي الصادر من إلههم و المدوَّن في كتابهم العسكري الحربي المقدَّس، هو القضاء على كل مَنْ لم يؤمن بِ كتابهم و إلههم، و كل مَنْ لم يتبع عاداتهم و تقاليدهم و عقائدهم؛ إنها غزوة الداخل على الداخل، غزوة لسان الضاد و سيف موسى و هرون و وَرَقَة بن نوفل و مال بنت خويلد، إنها غزوة العَجَاج و الرمال المتطايرة من الكثبان الشرقية نحو الواحات الخضراء في قلب الشآم و لبنان، إنه العجاج المرعب القادم نحو هذه الجنان الخضراء، و يكاد يطمرها برمالها المحرقة و يحجب النور و الهواء النقي عن الأنسام و الأرواح اللطيفة، إنها غزوة الصحراء على المدينة و المدنية، لقد جاءت بِ ثقافة رهيبة لا تعرف الانكسار أمام أعظم العلوم و الفلسفات و النغمات، إنها ثقافة ما بعد الغزو، ثقافة الاستباحة و الحق المطلق، أو بِ الأحرى الحق الإلهي، و لذلك، فَ كلّ الحياة مستباحة لهم، إنها من حقِّهم المطلق، و كلّ ما يفعلونه هو الحقُّ و الصواب بِ عينه، و كلّ ما يفعله الآخرون، هو الخطأ و الضلال المطلق، و المسائل كلّها تخضع لِ المبدأ الأساس في منظومتهم القيمية، ألا و هو مبدأ التقية، أمُّ البراغماتية و المكيافيلية و التبريرية و التضليلية و المراءاة و الخداع و المكر و ال لا أخلاق.


إن فرسان الصحراء قد شكَّلوا عصبة مسلحة فتَّاكة اقتحمت الخيام و المرابع المتناثرة خلف الكثبان، و شرَّعوا القتل و الاغتيال و سرقة الأموال و اغتصاب الإناث من كلِّ الأعمار، و استعباد الأطفال، و أسَّسوا جيشا إلهيا مهمته قَتْل كلّ مَنْ ينكر عليهم أعمالهم، سلوكهم، رأيهم، و فلسفتهم، و بِ التالي ثقافتهم البدائية، ثقافة الاستباحة.


إنها أخطر سلاح على حياة البشر، لا بل، على الحياة كلِّها؛ أنْ تستبيح الحياة بِ دعوى أن الله هو الذي أمَرَ بذلك، فَ والله إنها أخطر من الله بذاته، أنْ تؤسس عقيدة على أساس معاداة عقائد أخرى موجودة قبل عقيدتك في أركان الكون، فَ لَعمري، إنها أخطر من غضب الله بذاته، و خاصة عندما تصرّ على أنَّ الله هو الذي أمَرَكَ بذلك ( يا للهول!!!!!!!).


كلُّ الذين تناوبوا على التهامكِ يا بيروت، لم يحرقوا روحك، و لا حاولوا فعْل ذلك، إلاَّ الغزاة الذين حَقَنوا ثقافة الصحراء، ثقافة الاستباحة في شرايينكِ، إنهم يطفئون الشموع حيث وجدوها، يقتلون الأحرار حيث صادفوهم، إنهم بِ ألف لبوس و قناع، و لديهم حجة واحدة و وحيدة لِ القضاء على الحبِّ و الموسيقى، لِ القضاء على ثقافة الحبِّ و الفن، و الحجة تلك هي العدو الإسرائيلي، و هم يتاجرون بِ هذه القضية، فقط في هذه البقعة المضيئة من هذا الشرق الذي اجتاحه الظلام،إنهم يفعلون ذلك لِ القضاء على روح المحبة و السلام، لِ القضاء على ثقافة الحبِّ و الموسيقى، و إحلال ثقافة الاستباحة و الهمجية مكانها، و من خلال هذه الشعارات، و بِ آليات و أدوات الصراع الوجودي مع دولة إسرائيل، راح أصحاب ثقافة الاستباحة يشكلون دولتهم الدينية الخاصة الخارجة على القانون و الدولة المدنية، أو بقايا الدولة المدنية في لبنان الأسير، و كلّ ذلك بِ حجة مقاومة العدو الصهيوني.


إنَّ هذه الجيوش العقائدية الدينية الخارجة على سلطة الأنظمة الشرعية، لا توجد إلاَّ في بقعتين، و ذلك لِ القضاء التام على ثقافة المحبة و الفن و السلام، و هي القدس و بيروت، و في البقعتين نفسيهما تمَّ إطفاء الفوانيس و الشموع، و كتم الأنفاس، و قطع الألسن اللغلاغة التي تبشِّر بِ الحبِّ و السلام، فَ في القدس، مهد المحبة و السلام، لا تجد اليوم و لا تسمع أحدا من أولئك أصحاب البلاد الأصليين الذين نشروا المحبة و السلام في العالم أجمع، إنهم أصبحوا اليوم من معروضات المتحف المقدسي، أو أجزاءا من أثاث كنيسة المهد و القيامة، أمَّا في لبنان، فَ إننا أمام مشهد مرعب لِ جيش الله و حزب الله و رعب الله، إنهم أصحاب الدويلة الدينية المستبدة في الجنوب، و أصحاب مشروع الدولة الدينية في لبنان و دون أن يخفوا مشروعهم و أهدافهم المعلنة و غير المعلنة، فَ زعيم جيوش الله السيد حسن نصر الله قد أعلنها صراحة و بصوته القتالي، بِ أنه سَ يبني دولة دينية في لبنان، و أنَّ المسيحيين هم غرباء و دخلاء، لأن الاستعمار الكافر هو الذي جلبهم معه إلى لبنان( يا ساتر، لقد جاءنا القتل و التهجير على يد السيد رعب الله!!!!!)، و مِنْ قبله، و في أواسط الثمانينات من القرن المنصرم، تنطَّح ثورجي مجاهد/ قائد و زعيم الصحراء الليبية/، و قالها بِ الفم الملآن، و دون خجل:quot; على مسيحيي لبنان إمَّا أن يأسلموا ( يدخلوا في دين الإسلام )، أو أن يرحلوا عن لبنان ( ما شاء الله على هذه الثقافة، إنها هي بِ ذاتها- الاستباحة-). إنهم يقولون و يفعلون ذلك بِ رافعة المقاومة، و بدعوى تحرير الأراضي العربية من الاحتلال الصهيوني؛ إذا كان صحيحا ما يقولونه، فَ لماذا لم تدبّ النخوة فيهم و يشكلوا جيوش الله لِ تحرير اللواء الحبيب، و الجزر الإماراتية المحتلة من قِبَل الاستعمار الفارسي، إنَّ هاتين الدولتين اللتين استعمرتا بلداننا ( و لا زال )، و استباحوها استباحة تامة، لم يصفها أحد من هؤلاء الغيارى على الشرف العربي بِ العدو، بِ الرغم من أنهما مرتبطتان بِ علاقات و معاهدات استراتيجية مع دولة إسرائيل، فَ هل المسألة هي في الاحتلال، أم في الإحلال و الحلال؟؟؟!!!!


إنهم ( = أصحاب ثقافة الاستباحة) ماضون في تحطيم الفنارات، و لن يتركوا لبنان كَ عهده فنارا و ملتقىً لِ الحبِّ و السلام، فَ هم يقتلون الأحرار واحدا تلو الآخر، إنهم يدمِّرون تماثيل الحرية في لبنان ( كما فعل الطالبان في تورا بورا )، و بِ الرغم من ذلك، فَ عشَّاق بيروت لم يبخلوا بِ مناديلهم لأجل عيونها، لا بل، لم يبخلوا بِ دمائهم لأجل شرايينها؛ إنهم يسقطون و عيونهم ترنو إلى هامتها و هي تسحب أرواحهم النقية نحو السماء.


بيروت أنتِ تمثال الحرية، لا بل، أمسيتِ اليوم شجرة الحرية، و أغصانها هم الأحبَّة المبدعون، المفكرون، الفنانون، الشعراء، من كلِّ لون و جنس و دين، و عليكِ أنت أن تكتبي أسماء أغصانكِ، لأن الذاكرة الآن لم تسعفني بِ استحضار أسمائهم، إنَّما أرى الأغصان القريبة من عيوني و روحي، فَ أرى كمال جنبلاط غصنا يعانق بشير الجميِّل، و إلى جانبهما موسى الصدر، و الحبيب مصطفى جحا و حسين مروّة و رينيه معوَّض و رمزي عيراني و باسل فليحان و رفيق الحريري، و الأعزاء سمير قصير و جورج حاوي و جبران تويني و بيير جميِّل، و كلّ هؤلاء الأغصان المقدَّسة الذين سقطوا معهم، و الذين أسماءهم سَ تُكْتَب على هذه الشجرة، إنهم جميعا أغصانكِ الخضراء يا لبنان، يا شجرة الحرية، و حرَّاسكِ هم الأحبة مشاريع الأغصان. العزيز مروان حمادة، و عروس الحبِّ و الجمال، عروس آدونيس، عروس الحرية و المحبة و السلام، الحبيبة الغالية مَيّ شدياق، و العزيز الياس المر، و أطلب منكم أن تزرعوا هذه الشجرة و تستحضروا أسماء كل الذين طالتهم يد الغدر و الإجرام في سبيل حرية و حبِّ لبنان، فَ التماثيل في لبنان تحوَّلت إلى أغصان خضراء حيَّة مع شجرة الحبِّ و الحياة و الحرية، و على الأمم المتحدة أن تنشئ جائزة عالمية، هي جائزة بيروت لِ الحبِّ و الحرية، و أن تزرع أرزة لبنان أمام مقرِّ الأمم المتحدة بِ أسم( شجرة الحرية)، و تصبح رمزا لِ الحبِّ و الحرية في العالم.


فهان كيراكوس
سوريا* 7/ أيار/2007
[email protected]