تعيش عاصمتنا المقدسة بغداد السلام عاصمة الرشيد والمأمون في هذه الأيام محنة هي الأسوء من بين المحن التي مرت عليها عبر التأريخ منذ تأسيسها من قبل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور كما يمُر على سكانها اليوم وقتاً يُعد من الأصعب من بين الأوقات التي عاشها سكان هذه المدينة الجميلة المسالمة منذ أن جمعت بين ظهرانيها أناس من مختلف المشارب والإنتمائات الدينية والطائفية والعرقية وأذابَتهم في بوتقتها السحرية التي لاتضاهيها فيها أية مدينة في هذه الأرض ربما بإستثناء لندن.. فمايحدث اليوم لبغداد وأهلها يفوق الخيال ويبدوا أنه يسير وفق مخطط مدروس للوصول الى نتيجة لم تعد خافية على أي شخص يمتلك ذرة من عقل إذ بدأت الأمور بالكم الهائل من السيارات المفخخة التي تنفجر يومياً في أحياء بغداد وأسواقها مخلِّفة ورائها عشرات الضحايا ثم جائت ظاهرة العثور يومياً على عشرات الجثث المجهولة لشهداء مغدورين تم تعذيبهم وتقطيع أوصالهم بطرق بشعة أغلبهم أختُطِفوا من بيوتهم في مناطق مختلفة من بغداد ثم تطورت الأمور بعد جريمة تفجير ضريح الأمام العسكري في سامراء الى قتل وتهجير العوائل البغدادية الأصيلة من هذا الحي البغدادي أو ذاك على أساس الهوية الطائفية بل وتصفية هذه العوائل جسدياً وحرقها في دورِها في حال لم تَرضخ للرسائل التي تُبعث لها من مصادر مجهولة وتحتوي على طلقة وعبارة تقول quot; غادروا المنزل خلال 24 أو 48 ساعة quot; وفي الأشهر الأخيرة بدأت حلقة جديدة من حلقات هذا المسلسل والتي تمثلت بزخّات الهاونات المعروفة المصدر التي تتساقط يومياً وليل نهار على بيوت البغادلة ورؤوسهم مخلِّفة يومياً عشرات الضحايا وأخيراً وليس آخراً خرجت علينا الأجهزة الأمنية لـ ( حكومة الفتنة الطائفية ) وحليفتها قوات الإحتلال ببدعة جدران الفصل الطائفي التي تحيط اليوم بعروس دجلة الحبيبة quot; الأعظمية quot; والتي من المتوقع تشييدها في مناطق أخرى من بغداد على أساس طائفي لأسباب معروفة.. وخصم الكلام هو أن بغداد تتعرض اليوم وبكل وضوح الى عملية تدمير ومسخ وتشويه ديموغرافي لبنيتها الإجتماعية وحدودها الجغرافية كما أن أهل بغداد يتعرضون اليوم وبكل وضوح الى عملية أبادة جماعية واضحة ومقصودة وكل ذلك من أجل تحقيق والوصول الى أهداف بدأت ملامحها تتضح شيئاً فشيئاً مع مرور الأيام.. لذا ماهو السر وراء مايحدث في بغداد من تدمير منظم وإبادة جماعية لأبنائها البغادلة الأصلاء والذي يرافقه سكوت وتواطيء وربما مشاركة من قبل الكثير من القوى والأحزاب والأطراف السياسية التي تسمي نفسها زوراً وبهتاناً عراقية بل وحتى بعض أطراف الحكومة الحالية!!

بغداد وإقليم الوسط والجنوب:
في البداية لابد من الإشارة الى أن مايُسمى بالدستور العراقي قد نص ضمن فقرة تشكيل الأقاليم على أن الإقليم من الممكن أن يتكون من محافظة واحدة أو إثنتين أو أكثر والتي على أساسها يطرح البعض اليوم فكرة تشكيل إقليم من محافظات البصرة والعمارة والناصرية مثلاً أو إقليم من محافظة البصرة وحدها أو الرمادي وحدها أو بغداد وحدها.. إلا إن البعض يُصر اليوم على طرح فكرة quot; إقليم الوسط والجنوب quot; ( لاحِظوا العبارة ) وعلى ترديد هذا المصطلح في الإعلام العراقي وبين الأوساط الشعبية العراقية ( لغاية في النفس ) باتت واضحة لكل ذي بصر وبصيرة.. وبما إن الجميع يعلم بأن المنطقة التي تمتد من جنوب بغداد وحتى محافظة البصرة تسمى جنوباً لذا فإن المقصود من إقحام كلمة ( الوسط ) في تسمية هذا الإقليم هي محافظة بغداد عاصمة العراق منذ عهد الخلافة العباسية وحتى يومنا هذا والتي باتت المطالبة بها من قبل عرّابي هذا الإقليم مسألة علنية ومطلب شرعي كما يحلو لهم القول( فهم يحشرون كلمة quot; شرعيquot; في كل شاردة وواردة ) إستناداً الى إدعائات واهية وبيانات كثافة سكانية مُلفّقة ما أنزل الله بها من سلطان.. لذا يعمل البعض وخلال هذه الفترة على مسخ وتشويه ماضي بغداد وحاضرها الثقافي والإجتماعي وهنا بالتحديد يكمن السر فيما يحدث في مدينة بغداد الحبيبة.


فبغداد بناها وشيدها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وهذه حقيقة دامغة سواء رضينا بها أم لم نرضى.. وبغداد عَمّرَها وأعَزّها الخليفة العباسي هارون الرشيد وإبنه المأمون وهذه حقيقة أدمغ سواء رضينا بها أم لم نرضى لهذا سميت عبر التأريخ ببغداد الرشيد.. وبما أن بعض القوى المتنفذة حالياً تعتاش على أحداث الماضي التي هي بكل تناقضاتها المغذي الأساس لإستمرارية آيديولوجيتها المذهبية الراديكالية ومنهجها السياسي الإنتهازي وسطوتها الروحية والإجتماعية على العوام لذا فأنها تعتبر بأن لها ثأراً مع المنصور والرشيد والمأمون ومع ماشيّدوه وعَمّروه وبالتالي فأن مدينة هي من صُنع أيديهم وترتبط بأسمهم وتحمل آثارهم لن تُترك كما هي ومدينة تحمل أحدى أقدم وأجمل مناطقها إسم quot; المنصورquot; وتحمل إحدى أرقى وأجمل مناطقها إسم quot; المأمون quot; ويحمل أحد أعرق وأجمل شوارعها إسم quot; الرشيد quot; لن تترك كما هي ولابد من مسخ تراثها وتأريخها وأسماء شوارعها وأحيائها خصوصاً أذا أريد لها أن تُلحق بإقليم تسيطر عليه هذه القوى ذات الأفكار والآيديولوجيات والرؤى سالفة الذكر.


وبغداد معروفة بمجتمعها المنفتح على كل الأفكار والمتنوع الأديان والمذاهب والقوميات حيث يتعايش منذ قرون وبكل حب ومودة الشيعي مع السُني والكردي مع العربي مع الآشوري مع التركماني والمسلم مع المسيحي مع الصابئي مع الإيزيدي وكل هذا لايخدم مخططاً يريد أن يحول العراق الى كانتونات طائفية وعرقية لأن ترك بغداد بوضعها المعروف سيبقيها نموذجاً يَدحض جميع النظريات التي شُكِّلت على أساسها تلك الأقاليم وستُشكل بالتالي سِكِّينة خاصرة وحَجَر عثرة وستقف كاللقمة في الزور أمام نجاح فكرة تلك الأقاليم وإستمرارها وستمثل حينها العراق الصغير الذي يُذكِّر بالعراق الكبير الذي ستبقى قلوب جميع العراقيين من أبناء تلك الأقاليم تهفوا له حتى يعود شامخاً عظيماً كما عهدوه وكما هو شأنه على مر العصور..لذا كان لابد من تشويه الطابع الثقافي والإجتماعي لبغداد لقطع دابر أي أمل بعراق كالذي عاشه وعرفه العراقيون منذ قرون فبغداد هي عصب الأمة العراقية وعنوان وجودها لذا فأن تدميرها وتفتيت كيانها يعني تدمير الأمة العراقية وإلغائها من الوجود.


وبغداد معروفة بأجوائها الحضارية الجميلة المتمدنة وبطبيعة أبنائها الليبرالية المنفتحة والمُحبة للحياة والمدنية والتطور وهو ما لاينسجم مع طبيعة الفكر والآيديولوجيا التي تتبناها وتبشر بها القوى السياسية التي تدعوا لهذا الإقليم والتي من المتوقع أن تكون الحاكمة بأمرها فيه إضافة الى نوعية نظام الحكم الذي من المتوقع أن تفرضه هذه القوى على أهل بغداد..لذا كان لابد من تغيير ديموغرافيتها وديموغرافية مناطقها لتصبح ملائمة لتطبيق هذا النظام وهو مايفسر التصفيات الطائفية والتهجير القسري الذي يطال المئات إن لم نقل الألوف من أبناء بغداد الأصليين وإبدالهم بمن يؤمن بالفصل الطائفي بين البغادلة والعراقيين عموماً وبالرؤى المتخلفة والرجعية والطائفية لأمراء طوائف العراق الجديد.. فالعراق اليوم ليس دولة ولاحتى بالمعنى البسيط للكلمة بل هو عبارة عن مجموعة مِن الإمارات والإقطاعيات يسيطر عليها ويتحكم بها أمراء حرب عن طريق أحزابهم وميليشياتهم بعيداً عن أي وصاية من الدولة أو إرتباط بها يبيعون ويشترون بها وبسكانها كما يريدون وبالقانون إلا أن مشروع الأقاليم هو الصَفة والصيغة القانونية التي يريد أن يصبغها هؤلاء على إماراتهم هذه لتصبح رسمية وقانونية وشرعية.



بغداد والدخلاءُ والعُقَدُ:
هنالك من يكرهون بغداد لأسباب عديدة لأنهم إما يشعرون بالنقص تجاه بغداد وأهلها ومجتمعها وأجوائها المنفتحة التي يرونها غريبة عليهم وعلى ثقافتهم المتعصبة المحدودة الأفق لكونها تختلف كثيراً عن الأجواء المنغلقة التي عاشوا فيها وإعتادوا عليها والتي يرونها الأفضل والأصح لذا يريد مثل هؤلاء تحويل مجتمع بغداد الى مايشبه مجتمعاتهم بدلاً من أن يستفيدوا من تجربة بغداد التأريخية الرائدة ويطوروا مجتمعاتهم لتصبح مثل بغداد لا العكس.. أو إنهم وكما نقول باللهجة العراقية الدارجة quot; متعقِّدين quot; من كون بغداد كانت دائماً مركز الدولة والسلطة ومنها تدار الأمور.. لذا فإن أول مايجب أن تقوم به أي حكومة إنقاذ وطني تأتي بعد هذه الحكومة هو إعادة العمل بـ quot; قانون 57 quot; الذي يمنع من لايمتلك نفوس 1957 من التملك في بغداد إلا لأسباب خاصة جداً ترتأيها لجنة خاصة تشكل فقط لهذا الغرض.. فالدليل على أن النية كانت مبيتة من قبل البعض لتدمير بغداد وتشويهها هو أنهم حال وطئت أقدامهم أرض العراق وتسلطوا على مقدراته ومقدرات عاصمته الحبيبة قاموا بإلغاء قانون 57 المعروف والخاص بتحديد السكن في مدينة بغداد الحبيبة بدعوى أنه أقِر من قبل النظام السابق وأنه قانون جائر وضد حقوق الإنسان كونه يمنع المواطن العراقي من التملك في عاصمة بلده ظاربين بعرض الحائط الظروف الموضوعية التي تحتم وجود مثل هذا القانون والمتعلقة بوضع بغداد الإجتماعي الخاص وطاقة إستيعابها وتمددها الأفقي لا العمودي لكننا فوجئنا بأنهم وفور أن إستتب لهم الأمر سارعوا الى إصدار نفس هذا القانون من جديد ولكن في مدنهم هم متناسين حقوق الإنسان وحق الإنسان العراقي بالتملك في أي جزء من بلاده كونهم يريدون طمس معالمها الحضارية وتشويه طابعها الإجتماعي المتحضر المنفتح وإعادة تشكيل تركيبتها الديموغرافية كما يحلوا لهم وبما يتلائم مع مخططاتهم للإستحواذ على جميع مافيها من أملاك وأراضي ولتصبح مُلكاً عضوضاً خالصاً لهم ولعوائلهم.
لأمثال هؤلاء نقول: إن لفظة quot; بغادلي أو بغدادي quot;هي الصِفة التي تُطلق على أي عراقي يأتي الى عروس المدن بغداد ويعيش فيها ويصبح جزئاً من نسيجها الإجتماعي ويشعر بالإنتماء لثقافتها بغض النظر عن أصوله وأصول أجداده الدينية أو الطائفية أو العرقية أما من يأتي من مجتمع مختلف عن مجتمع بغداد ويريد أن ينقل أفكار وطبائع وسلوك مجتمعه الخاصة الى بغداد فهو ليس بغادلي ولن يصبح ويُسمّى بغادلي( لو يطير)مهما فعل ومهما إمتلك بماله وسطوته وجبروته من أراضي بغداد وبيوتها.. كما إن بغداد لن تصبح في يوم من الأيام تبعاً لهذا الإقليم أو ذاك لأنها كانت منذ يوم تأسيسها وعلى مر التأريخ المدينة والعاصمة التي تتبعها المدن والعواصم والأقاليم والأمصار والدول بل وأحياناً القارات ولأنها وحدة إدارية وجغرافية وإجتماعية وثقافية فريدة من نوعها وستبقى هي لاغيرها والى الأبد مركز العراق وقلبه النابض وعاصمته المقدسة الخالدة.

خاتمة:
بعد أن فرقوا في بغداد بين الأزواج والأصدقاء والجيران وأبناء الخؤولة والعمومة بل وأحدثوا بينهم الدم عن طريق خفافيش الظلام الطائفية التي تعتاش على دماء العراقيين منذ شهور خلت وحولوا محلاتها وأزقتها ودرابينها الى تجمعات طائفية..وبعد أن بدئوا بمخطط جدران العزل والفصل الطائفية التي ستُحول هذه التجمعات الطائفية الى كانتونات طائفية معزولة عن بعضها البعض بحدود إدارية مصطنعة.. وبعد أن أغلقوا ودمروا جسورها التي تربط رصافتها بكرخها والتي دأب إعلامهم المسموم على تسميتهما بالرصافة (الشيعية) والكرخ (السُني).. فإنهم يريدون من خلال كل ذلك أن يوصلوا رسالة واحدة الى العالم المغشوش بهم تارة والمتواطيء معهم تارة أخرى والى كل الضمائر الحية والى العراقيين الشرفاء وأهالي بغداد الأصلاء الذين لازالوا عصيين عليهم مفادها:
إذا كان هذا هو حال بغداد التي كنتم تضربون بها وبأهلها الأمثال وإذا كان هذا هو حال أهلها من الشيعة والسُنة الذين كنتم تدّعون أنهم يعيشون منذ قرون سوية متزاوجين ومتصاهرين ومتجاورين في مدينة واحدة مافتئتم تصفونها بأنها رمز للحضارة وللتعايش الحضاري ولم يعودوا قادرين على التعايش مع بعضهم البعض بل لقد بات أحدهم يقتل الآخر ويُهجِّر الآخر ويحتمي من الآخر وراء الأسوار والجدران الكونكريتية فكيف تريدون لإبن الجنوب أن يتعايش مع إبن المنطقة الغربية أو كيف لإبن( المربع الشيعي!) أن يتعايش مع إبن(المثلث السُني!).. لذا فإن الحل هو بالأقاليم الطائفية التي يقودها ويحكمها أمراء الطوائف بعقلياتهم المتخلفة وأفكارهم المتحجرة وميليشياتهم المسلحة ومايحدث في بعض محافظات العراق اليوم شاهد على مانقول والآتي أعظم إن لم يتحرك العالم ويتحرك العرب ويتحرك الضمير الإنساني وقبل هذا وذاك إذا لم يتحرك العراقيون والبغادلة الحقيقيين الأصلاء الغيورين على العراق وعلى أرضه وشعبه وعاصمته الخالدة.
يبدوا أن بعض ساسة العراق الجديد ورغم أن العمائم لاتفارق رؤوسهم والسبح لاتفارق أياديهم وبالتالي كونهم quot; موامنة quot; بالمصطلح الروزخوني تناسوا عن قصد أو جهل الآية الكريمة التي تقول quot; ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين quot;.. لذا نقول لهم كيدوا ماشئتم فإن كيدكم سيرتد إليكم ولو بعد حين.
لا لجدران الفصل الطائفي.. لا لبغداد الشيعية وبغداد السُنّية.. نعم لبغداد العراقية
لك الله يابغداد وحفظك من كل مكروه وحاقد ودخيل ومُدّعي.

مصطفى القرة داغي
[email protected]