العالم المعاصر مليء بالمهاجرين. والعالم الّذي نعنيه في هذا السّياق هو العالم الأوّل، وعلى وجه الخصوص العالم الغربي المسيحي الّذي خرج منتصرًا متطوّرًا منفتحًا بعد ثورة التّصنيع، وثورة النّظام السّياسي الّذي يفصل الدّين عن الدّولة بانيًا إثر ذلك دولة مدنيّة هي دولة المواطنين. لقد أطلقت هذه الثّورة العنان للتّقدّم الحضاري على جميع الصّعد الإنسانيّة من خلال تحرير العقل من كلّ ما قد يعترض طريقه. هذا النّظام المدني الديمقراطي يتيح للمسؤول إمكانيّة العمل وإمكانيّة الوقوع في الخطأ أحيانًا، لكنّه يكفل في نفس الوقت للمواطنين إمكانيّة استبدال المُخطئ وتصليح الخطأ من خلال انتخابات حرّة نزيهة. هكذا تحوّل الملوك والملكات إلى رموز فقط لا غير، بينما تعمل الحكومات على إدارة شؤون المجتمعات لفترات محدودة تعود للشّعب بعد ذلك لمواصلة طريق العمل، وإن خيّبت آمال الشّعب يقوم هذا باستبدالها. وعلى الرّغم من كثير من الشّوائب الّتي قد تكون في هذا النّظام، غير أنّها تبقى ثانويّة مقارنة بالإنجازات الهائلة الّتي أفرزها هذا النّظام المدني الحضاري. فالحريّات المدنيّة أفرزت حريّة طرح التّساؤلات وحريّة كسر المفاهيم السّائدة ما أتاح للعقل حريّة مُطلقة في البحث عن إجابات. هكذا تقدّم العلم فاختصر مسافات العالم عبر التّصنيع والطّفرات التّكنولوجيّة الّتي دفعت بدورها إلى طفرات فكريّة، سياسيّة واجتماعيّة ذات أبعاد أخلاقيّة أيضًا.
***
ولا زالت موجات المهاجرين تتدفّق على هذا العالم من كلّ جهات الأرض ومن تشكيلة مختلفة من القوميات والأعراق، بما فيها التّشكيلات العربيّة والإسلاميّة. ومثلما يتّجه الحراك السكّاني في العالم المعاصر من الأرياف إلى المدن، فثمّة حراك أيضًا من أقطار العالم الثّالث، الّتي تحوّلت إلى ما يشبه الأرياف العالميّة، نحو البلاد الصّناعيّة المتطوّرة الّتي أضحت بمثابة المدينة العالميّة. غير أنّ أمرًا واحدًا يطفو على السّطح بينما كنّا نتابع كغيرنا مسيرة الانتخابات الرّئاسيّة الفرنسيّة الأخيرة الّتي أفرزت نتائجها وصول نيكولا ساركوزي إلى قصر الإليزيه. فالرّئيس الفرنسي المنتخب الجديد يتحدّر من عائلة مهاجرة حديثة العهد بالهجرة إلى هذا البلد الّذي منح العالم الثّورة الفرنسيّة وقيمها. حقيقة وصوله إلى قمّة الهرم السّياسي الفرنسي، علمًا أنّه ينتمي إلى عائلة مهاجرة، تشهد على إمكانيّة الحراك الاجتماعي ضمن هذا النّظام السّياسي والاجتماعي. فهل بوسع هذه الحقيقة أن تفسح المجال أمام الجاليات الفرنسيّة من الأصول العربيّة والإسلاميّة لحراك اجتماعي مشابه؟
***
الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر الهيّن، كما أنّ على أبناء تلك الجاليات أوّلا البحث عن هذه الإجابة. غير أنّ المتابع لحال أبناء هذه الجاليات، وبعض المشاهدات الّتي نراها بين فينة وأخرى إبّان السّفر إلى أصقاع مختلفة في هذه البلدان لا تشير إلى إمكانيّة حصول ذلك. قد تكون لهذا الوضع أسباب مختلفة تتعلّق بطبيعة هذه الموجات من المهاجرين العرب، والّذين يطرقون أبواب العالم الغربي بحثًا عن لقمة عيش لهم ولعائلاتهم الّتي بقيت في الأوطان، أو بحثًا عن عيش بعد أن ضاقت بهم السّبل في أوطانهم جرّاء أْمال القمع والقتل والسّحل الّتي تمارسها أنظمتهم في بلدانهم.
لكنّ الأمر اللاّفت لدى جميع هؤلاء من المهاجرين العرب هو اختيارهم العيش في حالة من التّقوقع ضمن جاليات معزولة عن محيطها الحضاري الجديد. بل أكثر من ذلك، إذ لا يمكن الحديث عن جالية عربيّة، فالانتماء إلى العروبة في هذه الحالة لا يشكّل صمغًا لاصقًا لأبناء هذه الجاليات. إذ هنالك فروق كبيرة وشاسعة بين هؤلاء القادمين من البلاد العربيّة، مغربها ومشرقها. حتّى أنّ زمرة المثقّفين من أبناء هذه الجاليات لا تطرح رؤى جديدة يمكن لأبناء هذه الجاليات امتطاؤها والمضيّ قدمًا. على العكس من ذلك، يتّضح من مشاهدات شخصيّة أنّ هؤلاء أيضًا لا يندمجون في هذه المجتمعات الجديدة الّتي فتحت لهم أبوابها، بل يواصلون العيش في فقاعات العالم العربي النّتنة أصلاً. إنّهم يحملون في جعبتهم أوبئة العالم العربي الحضاريّة ويذهبون بها حيثما ألقت بهم عصا التّرحال. كلّ هذا، بخلاف ما يمثّله ساركوزي وغيره من المهاجرين من أصول أخرى غير عربيّة تندمج في المجتمعات الجديدة اقتصاديًّا، فكريًّا وحضاريًّا، ولذلك يستطيع أحد أفراد تلك الجاليات أن يصبح رئيسًا للجمهوريّة الفرنسيّة.
***
إذا استمرّ المهاجرون العرب في العيش في عزلتهم الحضاريّة عن المجتمعات الحاضنة لهم، فلن يتغيّر شيء في أحوالهم،. وإذا أصرّ هؤلاء على مواصلة حمل أوبئة العالم العربي إلى مهاجرهم فسيواصلون العيش في معازل حضاريّة تزيد من حدّة التّوتّر في البلاد الّتي يتواجدون فيها. وقد يأتي يوم في المستقبل تقوم فيه تلك المجتمعات الغربيّة بوضع هذه المعازل خارج حدود خطابها المدني، إن لم يكن أسوأ من ذلك بكثير.
والسؤال الّذي سيبقى مفتوحًا على مصاريعه هو لماذا كلّ هذه الفروق بين موجات المهاجرين من صينيّين ويابانيين وهنود وسائر شعوب الأرض على اختلاف حضاراتها عن حضارات الدّول المضيفة وبين موجات المهاجرين من أصول عربيّة وإسلاميّة؟ قد تكون الإجابة كامنة في السّؤال ذاته.
أليس كذلك؟

[email protected]