تعتبر جزيرة سنغافورة أعجوبة هذا العصر بتحقيقها اكبر معجزة اقتصادية، حيث اصبح معدل دخل الفرد فيها يفوق مستوى معظم الدول الأوروبية. كما تتفوق سنغافورة اليوم على معظم الدول المتقدمة في أهم مؤشرات التقدم العلمي و التكنولوجي. و الغريب أن هذه المعجزة قد حدثت في ظل حكم الزعيم الواحد quot;لي كوان يوquot;، باني النهضة السنغافورية الحديثة، الذي حكم البلاد منذ حصولها على الاستقلال، على مدى 31 سنة، و ما زال يلعب دورا استشاريا في الوقت الحاضر، للحكومة التي يرأسها ابنه quot;لي هسيان لونجquot;.

لعل النظرة الثاقبة للزعيم المؤسس quot; لي كوان يو quot; القائمة على بناء اقتصاد وطني تنافسي و مندمج في الاقتصاد العالمي هي الأساس لهذا الإنجاز الفريد. و قد تحقق هذا الهدف بالاستثمار في التعليم و باتباع سياسة ناجحة لجلب الاستثمارات الخارجية. كما لعبت الإدارة و مؤسسات الحكم دورا هاما في تحويل الأهداف إلى واقع ملموس، و تحقق هذا بفضل نظام رواتب لموظفي القطاع الحكومي ينافس القطاع الخاص.

اشتهرت هونج كونج في ظل الحكم البريطاني بتخصيص رواتب عالية لموظفي القطاع الحكومي، تصل إلى مليون دولار كراتب سنوي لوزير المالية، مما ساعد على تحولها إلى مركز مالي عالمي. و سار باني النهضة السنغافورية الحديثة quot; لي كوان يو quot; على نفس النهج، عندما اقر منذ عام 1994 نظاما يمنح رواتب لموظفي الحكومة تساوي أقصى ما يمكن أن يحصل عليه نفس الموظف في القطاع الخاص.

على هذا الأساس، بلغ الراتب السنوي للوزير في سنغافورة 800 ألف دولار، خلال السنة الماضية. ثم جاء إعلان الحكومة يوم الاثنين 9 أبريل الجاري عن زيادة رواتب الوزراء بنسبة 60 % ليصل الراتب السنوي للوزير 2،1 مليون دولار أمريكي، أي اكثر من ثلاثة أضعاف راتب الرئيس الأمريكي ( 400 ألف دولار )، بينما يصل راتب رئيس الحكومة إلى 2 مليون دولار، أي خمسة أضعاف راتب الرئيس بوش.

دافع الوزير السنغافوري المسؤول عن القطاع العام quot; تيو شي هين quot; على الإجراء بانه ضروري للحيلولة دون الانهيار التدريجي للمؤسسات الحكومية quot;، و أضاف : quot; لا نود أن يكون الراتب سببا في رفض القطاع العام quot;.

ساعدت سياسة الرواتب المرتفعة على إيجاد قطاع عام تكاد تنعدم فيه المحسوبية و الفساد، اذ تتصدر سنغافورة العالم كله في تصنيف مؤشر الشفافية لمنظمة الشفافية الدولية (http://www.transparency.org).

حفز نظام الرواتب هذا كافة الأنشطة و في مقدمتها المؤسسات التعليمية، حيث تتصدر سنغافورة الأولمبياد الدولي في امتحانات المواد العلمية في المرحلة الثانوية ( النتائج منشورة على موقع : http://timms.bc.edu). كما أصبحت الدولة رائدة في مجال البحوث العلمية، بما فيها التقنيات الحديثة. لكل مليون ساكن، يوجد 4745 عامل في الأبحاث و التطوير في سنغافورة، مقابل 4484 عامل فقط في أمريكا...

ساعدت الإدارة السنغافورية المتميزة على جلب كبرى الشركات العالمية للاستثمار في البلاد، و حققت أعلى درجات التنافسية للاقتصاد، إذ تأتى الدولة ضمن أول القائمة لمؤشر التنافسية العالمية لمنتدى دافوس
(موقع:www.weforum.org).

في المقابل، لم تؤدي الرواتب المرتفعة لموظفي القطاع العام إلى ارتفاع يذكر للإنفاق الحكومي ككل، الذي لا يتجاوز نسبته 17% من الناتج المحلي الإجمالي في سنغافورة، مقابل اكثر من 30 % في معظم الدول النامية، كما يوجد فائض في ميزان الحكومة، بينما يمثل عجز هذا الميزان أحد أهم عوامل التضخم و الدين العام في باقي دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة.

يعاني القطاع العام في الدول العربية من ضعف الحوافز و هروب الكفاءات إلى القطاع الخاص و إلى الخارج، مما أدى إلى تردي الخدمات الإدارية و خدمات التعليم و الصحة. لكن مراجعة الرواتب الضرورية - أسوة بسنغافورة - تتطلب تخفيض العمالة الزائدة بتشجيع تحولها للعمل في القطاع الخاص و اعتماد طرق تعيين و ترقية الموظفين بناء على معايير المهنية و الخبرة و الإنجاز. كما لا بد من تقليل الضغط على موارد الحكومة بإعطاء دور اكبر للقطاع الخاص في مجالات الخدمات و البنية التحتية.

كاتب المقال محلل ايلاف الاقتصادي، باحث أكاديمي وخبير سابق صندوق الفقد الدولي بواشنطن

[email protected]