من حقنا نحن أهل الشرق الأوسط أن نشخص لتركيا بعيون ملؤها التطلع والإشفاق على تجربتها الرائدة، خاصة وأن آمالنا في مستقبل أفضل تتعرض للإجهاض في العراق ولبنان وفلسطين، وهي المواقع التي توقعنا (ومازلنا نتوقع) أن تشرق منها شمس الحرية على شرقنا المغيب والأسير، ورغم أن الشعب التركي جنساً وثقافة في منطقة وسطى بين الشرق والغرب، بمعنى أن القياس عليه لاستشراف مستقبل الشرق لن يكون دقيقاً، إلا أن هذا لا ينفي أوجه ارتباطه الشرقي العديدة، وهو البلد الإسلامي، والمعقل السابق لدولة الخلافة الإسلامية، وهو صاحب الثقافة التي تسربت ولاشك إلى ثقافات المنطقة إبان استعماره الطويل لها.
لتركيا أكثر من ثلاثة أرباع قرن من الحكم العلماني، لكن تجربتها العلمانية تختلف جذرياً عن سائر التجارب العلمانية في أوروبا وسائر العالم الحر، فهي لم تأت كتطور طبيعي لثقافة وحياة الشعب التركي، بقدر ما كانت نتيجة للانقلاب الأتاتوركي الشمولي، والذي نجح في فرض العلمانية فرضاً على الشعب التركي، ولا نزعم بالطبع بأن هذا الانقلاب كان منبت الصلة بالجماهير، أو أنه جاء بالاتجاه المعاكس لتطور ظروف وثقافة الشعب، لأنه لو كان فعلاً كذلك لما استطاعت العلمانية أن تحدث أي تطور أو إنجاز حقيقي وجذري، لكننا نقول أن قوة العسكر كانت هي المرجح لموازين القوى، خلال الحراك المجتمعي بتركيا قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، لكننا لا يجب في مراقبتنا للتجربة التركية أن نغفل أن العلمانية التي فُرضت أو رجحت بالقوة المسلحة، لم تستطع طوال تلك العقود الطويلة أن تقف على قدميها بقواها الذاتية، أي باقتناع الجماهير وتمسكها بها، بقدر ما استندت في بقائها إلى حراسة العسكر، بما يذكرنا بمثال حالات استزراع أعضاء بشرية، والتي تحتاج طوال الوقت إلى عقاقير تضعف مناعة رفض الجسم لها كعضو غريب، فإذا ما توقف المريض عن تعاطي تلك العقاقير، فإن النتيجة الحتمية هي لفظ الجسم لما تم استزراعه فيه، وكأن أعضاء الجسم الأصيلة قد اتفقت على أن التداعي أو الموت أفضل من قبولها لجسم غريب، حتى لو كان يمنحها الحياة!!
تبدو تركيا الآن أمام إشكالية اختيار رئيس للجمهورية في مرحلة حرجة وحاسمة في مسيرتها العلمانية، فالديموقراطية العلمانية تقضي بأن يختار البرلمان رئيس الجمهورية، والبرلمان يسيطر عليه حزب العدالة الإسلامي المرجعية بأغلبية كبيرة، فإذا ما تمكنت تلك الأغلبية من اختيار رئيس للجمهورية له ذات المرجعية الدينية، سواء تم ذلك بانتخابه عن طريق البرلمان، أو باللجوء إلى الانتخاب المباشر عن طريق الشعب، فإن هذا يعني أن العلمانية قد فقدت ركناً من الأركان الثلاثة الباقية لها في تركيا، وهي الجيش ورئيس الجمهورية والقضاء، وإذا أضفنا إلى هذا أن رئيس الجمهورية هو الذي يختار أو يرشح مناصب القضاء العليا، فإننا نكون مقبلين على وضع يكون فيه الجيش هو السند الوحيد الباقي لعلمانية الدولة، في مقابل إرادة شعبية نستطيع أن نقرر باطمئنان أنها تؤيد التوجهات الدينية السياسية، ينبغي أيضاً استكمالاً للصورة أن نتساءل: إلى متى تظل العسكرتاريا حامية مخلصة للعلمانية، مادام العسكر في البداية والنهاية هم جزء من الشعب، وليسوا كتلة صماء هابطة على تركيا من كوكب آخر.
لكي نجيب على تساؤل: وماذا بعد؟ ، أمامنا عدة طرق للمقاربة، أولها أن نأخذ صورة (لقطة) ثابتة للوضع الحالي، وسيظهر فيها حزب العدالة والتنمية المنتخب وفق إرادة جماهيرية حرة، ويتمتع بأغلبية مريحة تتيح له حكماً مستقراً، وما يبدو من هذا الحزب حتى الآن أنه خاضع لقواعد اللعبة الديموقراطية، وأنه يعمل في ظل سلطة الشعب وليس الحاكمية الإلهية، التي تنادي بها جماعات الإسلام السياسي العربية، وسيظهر في الصورة أيضاً أن هذا الحزب استطاع أن يخطو حتى الآن خطوات ذات شأن باتجاه الانضمام للاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى ما استطاع تحقيقه من تقدم في مجال الاقتصاد التركي، ويمكن أن تدلنا تلك الصورة أن الديموقراطية التركية بخير، بل وتحقق نجاحات على أكثر من مستوى، وأن أي تخوف من وصول أحد المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الجمهورية، هو تخوف لا مبرر له، بل ويمكن للبعض نسبة هذا التخوف إلى تأثير الفكر الشمولي الذي رافق العلمانية التركية منذ بداية مسيرتها، وبهذا أيضاً يمكن أن يعتبر البعض أن حزب العدالة نموذجاً واعداً ومبشراً بتحول الأحزاب العربية ذات المرجعية الإسلامية إلى ذات المنهج، الذي يرتكن إلى قيم دينية، وفي ذات الوقت يعتمد الليبرالية والديموقراطية.
مقاربة أخرى ممكنة وواجبة، لا تقنع بأخذ صورة ثابتة للحظة الراهنة، وإنما تضيف إليها عدة لقطات للحظات سابقة، لتضعها جميعاً معاً، مرتبة ترتيباً زمنياً من الأقدم إلى الأحدث، ومنها تستطيع أن تستدل على المنحى الذي تتطور إليه الأمور، فتكون تصوراتنا عن احتمالات المستقبل أكثر دقة وعلمية، فإذا بدأنا بصورة تقول أن العلمانية كانت دوماً في حراسة العسكر ورئيس الجمهورية والقضاء، وصورة ثانية تصور حزب الرفاة الإسلامي وهو يصل إلى السلطة التنفيذية -بمرجعيته الدينية المتشددة- وفق إرادة جماهيرية، وصورة أخرى تظهر فيها قوى حماية العلمانية وهي تسقط حزب الرفاة وتحرم على رئيسه ممارسة العمل السياسي، ثم والحزب يبدل اسمه ويخفف من غلوائه، ليعود بإرادة جماهيرية أيضاً باسم حزب العدالة والتنمية، فإننا يمكن إزاء هذا التسلسل في مسيرة الشعب التركي والعلمانية أن نخلص إلى استنتاجين مختلفين تمام الاختلاف، من حيث دلالة كل منهما على احتمالات المستقبل:
* لأول أن العلمانية تتراجع في تركيا، وإن مرتكزاتها الأساسية لن تصمد طويلاً أمام إرادة جماهيرية واضحة للعودة إلى النموذج الإسلامي في الحكم، وأن تراجع حزب العدالة وليبراليته البادية مجرد تراجع تكتيكي مؤقت، ومتعارض مع الأيديولوجية التي مازال الحزب يعتنقها، ولن يلبث أن يعود إليها حالما تمكن من ذلك، وهو ما يوشك أن يحققه بالتمكن من منصب رئيس الجمهورية ثم التمكن من القضاء، ونحن نكون بهذا المنهج نمد خط تسلسل الأحداث على استقامته باتجاه التقهقر عن العلمانية، نحو التحول إلى دولة دينية، تختلف قليلاً أو كثيراً عن النموذج الإيراني.
* الاحتمال الثاني لا يقرأ من تسلسل الصور السابقة أن خط التطور عبارة عن خط مستقيم يتجه من العلمانية إلى الثيؤقراطية، وإنما يرى في الانكسار الذي حدث في تحول حزب الرفاة إلى حزب العدالة تحولاً جوهرياً دائماً وليس تكتيكياً مؤقتاً، وتأخذ هذه الرؤية في الاعتبار أن الظروف الموضوعية داخل تركيا، بالإضافة إلى الظروف العالمية، وما تحقق بالفعل من اندماج جزئي لتركيا بالحضارة الأوروبية وقيمها ونظمها السياسية والاقتصادية والثقافية، هذه العناصر كلها وضعت حداً لما تستطيع تيارات الإسلام السياسي أن تذهب إليه، بما يعني أن خط التحول الهابط قد وصل إلى أسفل نقطة بعداً عن العلمانية، ثم عاد للصعود باتجاهها عبر تجربة الحزب في الفترة الماضية، وبالتالي فهو مرشح لإعادة الصعود في الفترة القادمة، أو الاستمرار على ذات المستوى، على أسوأ الفروض من وجهة نظر علمانية.
من الواضح أن السيناريو الأخير يتوافق مع السيناريو الأول، الذي اتخذ من اللحظة الراهنة وحدها صورة يعتمدها، بل ربما كان أكثر تفاؤلاً منه، بتوقع الزحف باتجاه علمانية تعتمد هذه المرة على في بقائها ونموها على إرادة الجماهير، وعلى ما تمليه مصالحها العملية في التقدم والرخاء، وعلى ما يترتب على ذلك من تطور ثقافي عميق في المجتمع التركي، ومع ذلك فنحن نميل إلى استبعاد منهج الاعتماد على اللحظة الراهنة وكفى، ليس فقط للاعلميته، ولكن أيضاً لما يمنحه من اطمئنان ويقين زائف، إذ يتحتم علينا اختيار لا يقين النهج الآخر، والذي يبقينا في حيرة عما سيسفر عنه المستقبل.
هنالك سيناريو أخير وهو تدخل الجيش لمنع اختيار رئيس جمهورية ذي توجه إسلامي بواسطة الانتخاب الشعبي المباشر، فعلاوة على أن حدوث هذا سيكون بمثابة إنقاذ انتحاري للعلمانية، كفيل بجلب الضرر والعداء الشعبي لها، بأكثر مما يمكن أن يحقق من إنقاذ لها، فإن هذا الحل لم يعد مناسباً الآن، ولن يكون مقبولاً شعبياً، كما لن يكون مقبولاً أوروبياً ولا عالمياً، وبالتالي سوف يؤدي لدخول تركيا إلى مأزق سياسي، لابد وأن ينعكس سلباً على جميع مناحي الحياة التركية.
لابد لنا إذن أن ننتظر، ولابد للتكهن باحتمالات المستقبل بأخذ صورة أو أكثر لعدة لحظات قادمة، لنضعها بجانب صور الماضي، لنستطيع أن نستنتج أو نرسم منحنى مسيرة العلمانية التركية، وربما نرسم معها مسيرة الشرق الوسط، أو على الأقل نرسم حدود الآمال التي يحق لنا كطلاب حرية وحداثة أن نذهب إليها.
- آخر تحديث :
التعليقات