للسنة الثالثة أنعقد قبل أيّام مؤتمر البتراء الذي يشارك فيه ما يزيد على ثلاثين من حاملي جائزة نوبل في ميادين مختلفة أضافة ألى شخصيات دولية وعربية وأقليمية. تمتلك هذه الشخصيات، نظريا،ً حدّا أدنى من القدرة على المساهمة في تطوير الوضع في الشرق الأوسط. الهدف من عقد المؤتمر سنوياً تحسين الوضع في المنطقة على كل المستويات بدءاً بخلق أجواء تساعد في نشر ثقافة السلام وأنتهاء بالبحث في القضايا الأساسية التي تعيق التقدم والتطور فيها من دون عقد. في مقدم هذه القضايا التعليم الذي له علاقة بالعصر ورفع مستواه ووضع المرأة والأقتصاد وكل ما له أرتباط بحماية البيئة وتوفير حياة أفضل لأهل الشرق الأوسط.
كان الملك عبدالله الثاني المحرك لمثل هذا النوع من المؤتمرات التي تروج لثقافة السلام والتطور بديلاً من ثقافة الموت وتسعى ألى ربط المنطقة بالمستقبل والتصالح مع كلّ ما هو حضاري في العالم. ثمة رهان أردني على كسر حلقة العنف بدل أعتبارها قدراً لا مفرّ منه. أنه رهان على ثقافة السلام التي تساهم بالفعل وليس بمجرد الكلام في تغيير المناخ السائد في المنطقة. ولذلك تحدّث العاهل الأردني الشاب في الخطاب الذي افتتح به الثلاثاء الماضي مؤتمر البتراء عن التحديات التي تواجه السلام والمواطن العادي وعن ضرورة العمل من أجل التعاطي معها بدل الهرب منها أو التلطي بالشعارات الكبيرة التي لا تقدم ولا تؤخّر. وحدهم الجبناء يهربون من الواقع الى الشعارات. والواقع يحتّم الدخول في مواجهة حقيقية مع أسرائيل بهدف خلق الأجواء الكفيلة بتحقيق السلام الذي يصبّ في خدمة الجميع. ولذلك لم يجد الأردن عيباً في دعوة رئيس الوزراء الأسرائيلي أيهود أولمرت ألى البتراء حيث تحدث طويلاً في ندوة مفتوحة مع أيلي فيزيل، الحائز على نوبل الآداب، عن فرص السلام.
بالمقارنة مع مؤتمر العام الماضي الذي شارك فيه أيضاً، كان أولمرت أقلّ عجرفة. ولكن بدا واضحاً أنه لا يزال عاجزاً عن الأقدام على خطوة حاسمة في أتجاه السلام. أكثر من ذلك، بدا جليّاً أن رئيس الوزراء الأسرائيلي منشغل بمستقبله السياسي وبمستقبل حكومته. ولذلك ترتّب على العاهل الأردني تذكيره بحزم، في اللقاء الذي أنعقد بينهما في العقبة بعد أفتتاح مؤتمر البتراء، بأنّ السلام يحتاج ألى مواقف شجاعة وألى سياسة بناءة بدل تلك المتبعة حالياً والتي تضع نصب عينيها القضاء على الشريك الفلسطيني الذي يمكن أن يفاوض جدّياً من أجل التوصل ألى صيغة معقولة ومقبولة ترسي السلام. لم يكن الجهد ألأردني في البتراء والعقبة سوى أستكمال لما قام به الملك عبدالله الثاني في واشنطن نفسها حيث تحدث قبل أسابيع قليلة أمام مجلسي الكونغرس عن ضرورة التوصل ألى أتفاق بين الفلسطينيين وأسرائيل في حال كان مطلوباً التعاطي بجدية مع مشاكل الشرق الأوسط.
ألى أشعار آخر لا تزال القضية الفلسطينية حجر الزاوية لأيّ سلام في الشرق الأوسط وهو ما تسعى أسرائيل ألى تناسيه ومعها ألأدارة الأميركية...كان لا بدّ من تذكير كلّ من يعنيه الأمر بأنّ للشعب الفلسطيني حقوقه وأن العرب ليسوا على أستعداد للقبول بأي تجاوز لهذه الحقوق بغض النظر عن أهمية الحرب على الأرهاب التي يخوضها العالم على رأسه أميركا... أو ما يجري في العراق الذي باتت وحدة أراضيه مهددة فضلاً عن أن الحرب الأهلية الدائرة فيه أرتدت طابعاً مذهبياً يُخشى من أنعكاساتها على المنطقة ككل... أو البرنامج النووي الأيراني المثير للجدل الذي يثير كلّ أنواع المخاوف في الشرق الأوسط بما في ذلك النتائج الكارثية على كلّ أهل المنطقة التي يمكن أن تتسبب بها حرب جديدة .
كان مؤتمر البتراء مفيداً ليس من زاوية أنّه شهد جلسة تحدّث فيها شبّان من فلسطين والأردن ومصر وأسرائيل والسعودية والكويت ولبنان والمغرب عن طموحاتهم وعن تصورهم للتحديات التي تواجه الجيل الجديد فحسب، بل لأنّ المؤتمر كشف أيضاً أن المخاوف من سياسة أسرائيلية جديدة تركز على أن الضفة الغربية ليست أرضاً محتلة هي مخاوف في محلّها. نعم، تصير هذه المخاوف في محلها عندما يرفض نائب رئيس الوزراء الأسرائيلي شمعون بيريس في البتراء أعتبار أن هناك أرضاً فلسطينية محتلة. ركّز بيريس في كلمة ألقاها في غداء للمشاركين في مؤتمر البتراء على رفضه لأستخدام كلمة quot;أحتلالquot; لوصف الوضع في الضفة الغربية والقدس الشرقية. هل تراهن أسرائيل على أحداث كبيرة في الشرق الأوسط كي تعود ألى سياسة متحجرة تقوم على أن الأراضي المحتلة في العام 1967 quot;متنازع عليهاquot; وليست محتلة؟ هل هذا هو التفسير الأسرائيلي الجديد- القديم لقرارات الشرعية الدولية؟
تكمن أهمية مؤتمر البتراء أنه كشف توق شبان المنطقة ألى السلام وألى أعتماد لغة جديدة في التعاطي مع التحديات المستقبلية من جهة في حين أن الحكومة الأسرائيلية التي يرأسها أولمرت ضعيفة ألى درجة تدفعها ألى الأستنجاد بالتطرف للهرب من أستحقاقات السلام.
المؤسف أن مؤتمر البتراء كان منعقداً عندما تجددت الأشتباكات بين quot;فتحquot; و quot;حماسquot; في غزة. وقد تذرع المسؤولون الأسرائيليون الذين حضروا ألى البتراء بالوضع السائد في القطاع لتأكيد أن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. وفرت أحداث غزة ذخيرة للأحتلال وللسياسات الأسرائيلية التي تستهدف تكريسه في الضفة الغربية. هل غزة نموذج لما يحصل بين الفلسطينيين عندما ينتهي الأحتلال؟ شعر كلّ عربي كان في البتراء بحال من الأحباط عندما أستغلّت quot;حماسquot; ومن يسيّرها من الخارج الضعف الذي تعاني منه quot;فتحquot; في غزة بسبب غياب العقيد محمد دحلان لأسباب صحية، كي تسعى ألى حسم الوضع عسكرياً. هذا سلوك خطير يشير ألى أن الهمَ الأوّل لquot;حماسquot; ليس الأنتهاء من الأحتلال بمقدار ما أنّه الأستيلاء على السلطة بأيّ ثمن كان.
كشفت أحداث غزّة صراحة أن هناك طرفاً فلسطينياً يمتلك المال والسلاح يعمل ضد مصلحة الشعب الفلسطيني وضد كلّ ما يمكن أن يخدم السلام. تبين بكل بساطة أن تفجير quot;حماسquot; للوضع في غزة في هذا التوقيت بالذات يخدم الحكومة الأسرائيلية. وليس صدفة أن أسرائيل لجأت ألى التصعيد مجدداً كي تظهر حكومة أولمرت أنها قوية وأن في أستطاعتها ممارسة عملية هروب ألى أمام. أكثر من ذلك، يمكن القول أن quot;حماسquot; قدمت من حيث لتدري أو لا تدري خدمة مجانية لحكومة ضعيفة وخطرة هي حكومة أولمرت بأن سمحت لها بعرض عضلاتها في غزة!
كان مؤتمر البتراء محاولة جدّية لتحسن أجواء السلام بما يخدم الشعب الفلسطيني ويظهره بأنه الضحية، ضحية الأحتلال وممارساته أولاً. وجاءت أحداث غزة لتصب في خدمة الأحتلال. المعركة تبدو طويلة بين عقليتين، عقلية الساعين ألى السلام من جهة وبين عقلية الساعين ألى أستمرار النزاع ألى ما لا نهاية من جهة أخرى. في النهاية لا يمكن ألاّ أن تنتصر أرادة السلام. السؤال ما الثمن الذي سيدفعه الشعب الفلسطيني بسبب تصويته لمصلحة quot;حماسquot; ولمصلحة أستمرار فوضى السلاح؟