يراقب العراقيون بوجل وريبة ما يجري على الساحة السياسية من محاولات حثيثة، ومن اطراف عدة، محلية واقليمية ودولية، لأعادة تأهيل البعثيين من جديد، وتسليمهم المواقع القيادية للبلد بحجة أن ذلك سيحقق الامن والاستقرار في البلاد، ويساعد على القضاء على الارهاب، الامر الذي يعني اقراراً ضمنيا بالدور القذر الذي يضطلع به البعثيون في تأجيج الارهاب. ورغم التأكيدات والتطمينات التي نسمعها يوميا من اقطاب الحكومة العراقية بعدم السماح باعادة عقارب الساعة الى الوراء على حد تعبيرهم، الا ان الواقع يقول غير ذلك. والسؤال الذي بات يدور في خلد ضحايا البعث وتردده الالسن علانية هو هل بدأ العد التنازلي لسيناريو اعادة تأهيل البعثيين لحكم العراق ثالثة ؟
المرة الاولى التي حكم فيها البعثيون كانت بعد انقلاب شباط 1963 والذي نُفذ ضد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم بدعم خارجي واقليمي. ولم يعمر البعثيون بعده طويلا، حيث انقلب عليهم عبد السلام عارف بعد اشهر، فأنهى حكمهم، وشتت شملهم، لكنهم استطاعوا اعادة تنظيم صفوفهم، واعادوا الكرة فنجحوا في الوصول الى دفة السلطة ثانية عام 1968، واضعين نصب اعينهم اخطاء المرة الاولى، مستلهمين منها الدروس والعبر، فدام حكمهم هذه المرة خمسة وثلاثين عاما عجافا، لقنوا خلالها العراقيين الموت غصة بعد غصة، وحولوا العراق من بلاد الرافدين الى بلاد المقابر الجماعية، حيث شمل ظلمهم جميع العراقيين، الى ان قوض الله سلطانهم اي سلطان بني عفلق وصدام في التاسع من نيسان 2003 وعلى يد من جاء بهم في المرتين السابقتين.
يتذكر العراقيون وبمرارة ما فعله بهم البعثيون، لذا تراهم يتطيرون من فكرة اعادة تأهيلهم للحكم ثالثة، ويقلقهم ذلك كثيرا، ولقلقهم هذا ما يبرره، فمازالت جراحاتهم التي تسبب بها البعثيون لما تلتئم. ومازالت جثث احبائهم الذين قتلهم البعثيون مطمورة تحت الارض ولما تكتشف. ومازال المنفيون الذين ابعدهم البعثيون عن ديارهم يكتون بنار الغربة وذلها ولسان حالهم (اذا تغربت فخذ نصيبك من الذلة). ومازالت دموع الثكالى لم تجف. فكيف يراد اذن اعادة تأهيل البعثيين؟
ثلاث امورخطيرة حصلت تشير الى ان عملية اعادة البعثيين قد خرجت من طور التخطيط الى واقع التطبيق، وأنها توشك ان تصبح حقيقة. الامر الاول تمثل بمشروع قانون (المسائلة والمصالحة) الذي طُرح مؤخرا. وفيه من التجاوزات الدستورية والقانونية ماينبئ بأن وراء الاكمة ماورائها. فالذين اعدوا هذا المشورع السئ الصيت ليسوا بجاهلين اوبغافلين عن مافيه من تجاوزات وخروقات دستورية، او أنهم كتبوه على عجالة من أمرهم كما سُرب، كلا لكنهم طرحوه ضمن تخطيط مسبق وبعناية وذلك لغاية في نفس يعقوب.
والامر الثاني يتمثل بالقرار الذي صدر مؤخرا عن وزارة الخارجية العراقية بأعادة توظيف اعضاء السلك الديبلوماسي من سفراء وآخرين ممن انشقوا عن النظام والتحقوا بصفوف المعارضة العراقية السابقة. والمخيف في هذا الامر ان أغلب الذين تمت دعوتهم للعودة الى السلك الديبلوماسي هم من عتاة البعثيين، بل ان بعضهم ومنذ اكثر من اربعة اعوام أعلن حربه على النظام السياسي الجديد وعلى الحكومة العراقية التي يصفها بالعميلة وبأقذع الاوصاف من على اعواد المنابر، بل أكثر من ذلك ان احد هؤلاء الذين اعيدوا بـ(مكرمة) من وزارة خارجيتنا العتيدة ظهر من على شاشة احدى القنوات العربية في لندن قبل ايام بعنوانه الرسمي كـ(سفير في الحكومةالعراقية) وراح يلعن ويشتم ويزدري الحكومة التي اعادته للوظيفة وقررت دفع مخصصاته الوظيفة ولطيلة فترة (معارضته) النظام البائد، ياله من كرم حاتمي فظيع؟ كنا نتمنى على حكومتنا الموقرة ان تسبغ بنعمها على ضحايا البعث من ارامل وأيتام ومشردين ومهجرين ممن كان لهم الفضل عليها واليد الطولى في وصولها للسلطة. يبدو ان (إنصاف) البعثيين له الاولوية وفقا لحسابات حكومتنا التي عجزت عن انشاء مشروع واحد تعود منافعه على ضحايا البعث لكنها تسارع في ارضاء البعثيين وذلك استرضاءا (للضغوط) الاقليمية والدولية كما ُيبرر
الامر الثالث وهو الاخطر تمثل بالقرار الاخير الذي اتخذته وزارة الداخلية في دعوة اعضاء الاجهزة الامنية السابقة لمراجعتها في سبيل اعادة (الاستفادة) من (خبراتهم) وتوظيفهم ثانية، ولاداعي بالطبع للتذكير هنا بالصفة القمعية لاعضاء هذه الاجهزة الذين لعبوا دورا حقيرا في زرع الخوف والرعب في قلوب المواطنين، حيث كانوا الذراع الضاربة للنظام البائد حتى تحول العراق بسببهم الى (جمهورية الخوف)* التي حولت ايام العراقيين الى جحيم لايطاق.
هذه الامور الثلاث جرى التخطيط لها بدقة. وحينما يصار الى جمعها مع بعضها البعض ستكون النتيجة هي اعادة البعث ثالثة الى الحكم، ولكن هذه المرة من الشباك بعد ان طرد من الباب. فقانون (المسائلة والمصالحة) سئ الذكر سيأخذ على عاتقه توفير الغطاء القانوني لإعادة البعثيين الى مؤسسات الدولة المختلفة،اما قرار الخارجية فيعني وضع الديبوماسية العراقية تحت رحمة البعثيين، اما قرار الداخلية فسيحتل من خلاله البعثيون المؤسسة الامنية من جديد،وهو المكان الذي تتفتق به مواهبهم الاجرامية حيث يتذكر العراقيون جهاز(حنين) الذي تولى الاشراف عليه الديكتاتور البائد بنفسه، ومنه كانت الانطلاقة الاولى لسيطرة البعثيين على العراق.
وبكلمة اخرى، فأن مايجري هو عملية تقنين لإعادة البعثيين الى الحكم وبطريقة المراحل. فقانون (المسائلة والمصالحة) يعني غلق باب ملاحقة البعثيين قضائيا، اما قرار الخارجية فيعني اعادة تبعيث الديبلوماسية العراقية مما يعني تشويه وجه العراق الجديد، اما قرار الداخلية فمعناه اعلان الهزيمة رسميا امام البعثيين وتسليمهم مفاتيح العراق، وهذا هو تفسير الانقلاب الذي عناه البعض. فالانقلاب هذه المرة لن يكون بآلية عسكرية اي دبابات تحاصر القصر الجمهوري والاذاعة وتعلن البيان رقم واحد كما تعود العراقيون على ذلك، بل سيكون بألية سياسية تتمثل بقرارت وقوانين ذات طابع سياسي كقانون (المسائلة والمصالحة) وقراري اعادة البعثيين الى السلك الديبلوماسي والى الاجهزة الامنية.
قد يبدو هذا السيناريو بعيدا لكن التدقيق بما يجري على الارض يؤكد صحته لاسيما بعد ان فشلت النخب السياسية الحاكمة في مواجهة استحقاقات المرحلة وبخاصة ما يتعلق بالشان الامني والاقتصادي وتحقيق السيادة الوطنية المطلوبة، وفشلت في توفير ابسط الخدمات وذلك بسبب تقديم هذه النخب لمصالحها الضيقة على حساب المصلحة الوطنية العليا،وأنشغالها في الصراع فيما بينها على مغانم السلطة، وعدم التفاتها للشعب الذي بات تحت مطرقة الارهاب المتزايد وسندانة الفشل الحكومي، وكذلك بسبب افلاس برامجها السياسية، هذا اذا كانت تمتلك برامج سياسية واقتصادية اصلا، وبسبب عدم أهليتها للحكم مما ادى الى شيوع الفساد المالي والادراي والمحسوبية وحصول الفوضى على جميع الاصعدة الامر الذي جعل العراق في مصاف الدول الاكثر تخلفا في العالم.
وتبقى المبادرة اولا وأخيرا بيد العراقيين انفسهم. والسؤال هل سيسمح العراقيون بتكرار سيناريوا قتلهم وتعذيبهم على ايدي البعثيين من خلال سكوتهم ووقوفهم موقف المتفرج على مشروع اعادة البعثيين ام انهم سيبادروا الى اسقاط هذا السيناريو من خلال رفضهم للمحاصصة الطائفية والعرقية والجهوية التي تصر بعض النخب الحاكمة عليها، واختيارهم للأكفأ والانزه والاشجع لقيادتهم ولحكمهم؟ هذا ما ستكشفه الاشهر القليلة القادمة.

*هذا التعبير مستعار من كتاب (جمهورية الخوف) للكاتب العراقي كنعان مكية (سمير الخليل).
[email protected]