لعل واحدة من أهم مزايا العقيد الجماهيري الأخضر معمر بو منيار القذافي هي سأمه من حالة السكون واللاحركة!! وبحثه الدائم و المضني عن الإثارة والأضواء و عالم التصريحات ولو كانت خيالية أو من النوع الذي يطلقه اليوم و ينساه في الغد!! ولعل هذا ما يفسر سر لجوء (قناة الجزيرة) المناضلة لعرض لقاءات دائمة و في أوقات متقاربة للعقيد الهمام الذي ضرب الرقم القياسي العربي في التربع على سدة السلطة، و في لقاء العقيد الأخضر الأخير مع الجزيرة كان كل شيء ملون بالأبيض والأخضر!! وفي مشهد ذكرني على الفور بالمغني الشعبي المصري الشهير في حفلات الختان والزواج والليالي الملاح الرفيق المناضل (شعبان عبد الرحيم) الشهير بشعبولا!!، فقد إرتدى العقيد كعادته بدلة بيضاء كبياض (ثورة الجماهير الليبية)!! وتحتها قميص أخضر مع منديل أخضر رسمت عليه خارطة القارة الأفريقية التي أضحت وحدتها ووحدة عشائرها وقبائلها من الهوتو والتوتسي حتى الزولو والهوية ووصولا لعفار وعيسى والقبائل المتحالفة معها هدفا ستراتيجيا يتوق له العقيد ويحلم و يقدم الغالي و النفيس من إمكانيات الجماهير الليبية المناضلة!! و العجيب أن إيمان السيد العقيد بالحلم الإفريقي قد تفوق حتى على إيمان الرئيس السنغالي الراحل (ليوبولد سيدار سنغور) بالزنوجة!! خصوصا و أن (الكتاب الأخضر) الشهير قد حمل نبوءة أكثر أهمية من نبوءات (نوسترداموس)! في قضية و نظرية و حكاية (السود يسود)!! التي حيرت علماء الديموغرافيا و الجغرافية و صانعي الحلويات في الشرق و الغرب!!، فالسيد العقيد قد أضاف لزخارف الملبس شكلا و ماكياجا يعبر عن طبيعة المرحلة الراهنة في أفريقيا و العالم العربي وهي المرحلة السوداء!! حيث حرص على صبغ شعر رأسه صبغا متطورا و أتبع ذلك بصبغ منابع الجذور للذقن و الشاربين حتى كأننا بالعقيد القذافي وهو يعيش مرحلة العشرينيات من عمره المديد!!.. تلك الملابس و ذلك (اللوك) الساطع ذكرني على الفور بملابس (شعبولا) الملونة و المزركشة و شعره المصبوغ وهو يصرخ و يزعق و يشتم إسرائيل و يحب عمرو موسى و يتعهد بقطع السجاير من أول يناير!!.. مع تعهده بلعب الحديد...! و ياحلاوة يا جدعان..وهيييييه...!.

و القذافي في تصريحاته الأخيرة لم يكن يختلف من بعيد أو قريب عن شعبولا ؟ فقد أفاض في الحديث و أطنب في التصريح، و كان تائها بالكامل في تذكره لتصريحات نارية سابقة له ضد بعض الدول العربية و منها السعودية على سبيل المثال!!، فقد أنكر أي مواقف سلبية منها و أصر على كونه بريء و لم يرتكب أي خطأ و لكنه لم ينس أن يصف القمة العربية بكونها (قمامة عربية)!! رغم أن سيادته كان من مشعلي أكثر الأزمات في تاريخ القمم العربية و الجميع ما زال يتذكر معاركه مع الراحلين الملك فيصل السعودي و الحسين الأردني في مؤتمر القاهرة 1970 و الذي دخل القذافي وقتها قاعة الهلتون و بحوزته المسدس و في أجواء معارك أيلول في الأردن المعروفة مما حدا بالملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز بأن ينصح العقيد المراهق وقتها للجوء لأقرب عيادة نفسية لإصلاح الخلل!!، هذا غير تاريخ طويل من العبث السياسي و الدبلوماسي و الهزائم العسكرية و المغامرات الدولية و التنابزات الإقليمية مما دفع الرئيس الراحل أنور السادات للتدخل عسكريا عام 1977!!، هذا طبعا غير تاريخ طويل من الإصرار على الوحدة العربية الفورية مع مصر و سوريه و السودان و تونس وحتى المغرب!! قبل أن تتفتح البراعم الإفريقية و يصبح العقيد إماما للصلاة في القارة السوداء!!، كل ذلك التاريخ الطويل و المسلي و الطريف في جوانب عديدة و لكنه المأساوي في تاريخ الشعب الليبي الذي أهدرت ثروته على مغامرات طويلة و عريضة تجعل المرء يقارن بين سياسات العقيد و أغنيات الرفيق (شعبولا) العديمة اللون و الطعم و الرائحة و المعبرة عن مرحلة هلامية من التاريخ العربي المعاصر ؟.

العقيد في تجلياته الأخيرة في قناة الجزيرة أثبت على الطبيعة أن الديناصورات يمكن أن تستنسخ ذاتها!! و من أن طول البقاء في الزعامة يورث عاهات خطيرة و غير منظورة!! كما أثبت أن الذاكرة قد ثقبت بالكامل!! و أن الهلوسة الفكرية قد أضحت سيدة الموقف... لقد جلست طويلا لسماع تقلبات العقيد فلم أر أمامي سوى (شعبولا) و هو يصرخ و يقول..هييييه... فيا أمة ضحكت من جهلها و (خرفها) الأمم!!.


[email protected]