بعد الانتكاسات التي عصفت بمنطقتنا كنتيجة منطقية, للانهيار الذي اصاب الدولة العثمانية الجامعة للتكوين الشرقي تململت وسط ركام الانهيار الكبير مجموعة قضايا جديدة, منها القضية الفلسطينية.
ففي عام 1948 قامت دولة اليهود على ارض فلسطين بمباركة القوى العالمية. العرب كانوا الحلقة الأضعف في الحسابات الدولية الجديدة. عنوة قامت الكيانات العربية الاقليمية, التي اسسها (الاستعمار) الغربي بمهاجمة الدولة الجديدة المصطنعة: اسرائيل. هذا الهجوم كان قبلياً وغير منظما. لم يكن للعرب افق واسع ورؤية متينة للأحداث والقضايا, وجلّ الأمر اقتصر على تحرير الأرض المقدسة بشعائر دينية وقومية لم تجد نفعاً في مواجهة الحسابات الدولية وآلياتها المتقدمة على الأصعدة كلها. بالطبع انتصرت اسرائيل في الجولة الأولى.
لكن الايديولوجيا, خصوصاً في زمن الحرب الباردة, اخذت تهيمن على كل نواحي الحياة في منطقتنا. وتم دفع الألوف المؤلفة من البشر الى أتون الحروب الفاشلة من دون تخطيط واستراتيجية لحاضر الشرق ومستقبله. وفي غمرة تصاعد المد القومي العروبي لملم العرب صفوفهم من جديد استعداداً لرمي اسرائيل الى البحر. من جديد لم يكن العرب على شئ مما ذكرناه آنفاً سوى عاطفة جيّاشة لم تختلف عن سابقتها إلّا بالمزيد من الهلوسة والعنف. فكان ما كان ان قاد جمال عبدالناصر العرب الى هزيمة محققة ونكراء. واستمرت الهزائم تلاحق العرب ولا تتوقف. ففي السبعينيات من القرن الماضي, وعلى مذهب الادمان ألقى العرب بانفسهم الى تهلكة خسارة جديدة بل وأكثر من ذي قبل, فخسروا أراضي أخرى لصالح اسرائيل. لم يتعض العرب وظنوا ان زوال اسرائيل تكون باسلحة الرشاش وقاذفات الهاون.
انشق الصف العربي وانشق الفلسطينيون, واجتاحت اسرائيل لبنان وعاصمتها بيروت. اختلط الحابل بالنابل والملايين من الفقراء والمساكين الفلسطينيين قضوا حياة دون مستوى الانسان في مخيمات لا تملك ادنى مقومات الحياة, لمدة أكثر من نصف قرن في لبنان وسوريا والأردن ومصر والعراق وليبيا وسائر دول العالم. وأصبح الفلسطيني يعرف بالارهابي والذي واجه الرفض اينما كان. لم تحرر فلسطين, وأجيال من الفلسطينيين قضوا اقسى انواع الحياة في المنفى/الموت. أطفال حُرموا من طفولتهم وشيوخ سُلبت منهم ذكرياتهم الجميلة وأغتصبت الأرض التي كانوا يرجون الرقود فيها للأبد, وراشدون غارقون في البكاء والمعاناة والعذاب.
اليهود الذين عذبوا في الأرض وخصوصاً في الغرب حيث تم حرقهم وذبحهم, تخلصت منهم اوروبا بارسالهم الى فلسطين واقامة كيان لهم مبني على استعداء العرب وغصب أراضيهم. لم يستوعب العرب مغزى الأحداث وفاتت عليهم فرصة التعامل مع الواقع الجديد بعقلانية وروية. فصرفوا الأموال والثروات في الحروب البهلوانية القاتلة, ونسوا كل ضرورة حياتية حظيوا بها. وبدل ان تعامل الدول العربية/ الاقليمية شعوبها واللاجئين الفلسطينيين معاملة كريمة, وتطوِر حياتهم وتتقدم في الخدمة والعلوم راحت تسلّح الحركات المتطرفة بالسلاح والعتاد للمزيد من الخراب والويل على الفلسطينيين انفسهم قبل الأخرين.
قام حكم ذاتي مبتور الساعدين والساقين, إرغاماً للعرب وزهواً لاسرائيل. والحال ان حماس اليوم تسيطر على الوضع في اغلب الأراضي المتبقية من فلسطين. ولكن السيطرة المذكورة تشوبها ليس فقط الأقلاق والأزمات بل وربما يواجه الفلسطينييون كارثة قد تفوق السابقات بالكثير من الألام والمحن. كنا نظن أن التيار الاسلامي يعيد بعض العقلانية الى قضية فلسطين ويتعامل في السياسة نداً بارعاً لاسرائيل في المحافل الدولية. لكن للاسف اثبتت الأيام والتجارب ان الاسلاميين خرجوا أكثر سذاجة من القوميين والعلمانيين العرب الذين قادونا الى الهزائم والنكسات منذ النصف الثاني من القرن الفائت.
ان وضع اولويات تافهة كرمي اسرائيل في البحر, وعدم الاعتراف بها والذي لايغير من تفوق اسرائيل والاعتراف بها دولياً قيد شعرة, نابعاً من عمق ساذج ومتطرف وقاتم, هو الذي دفع العرب ومن بينهم الحركات الاسلامية وعلى الخصوص حركة حماس, الى تجاهل أولويات ضرورية وعظمى نابعة من مبادئ الاسلام والعالم. فالانماء, حقوق الفرد, بناء اقتصاد قوي, توظيف الثروة الوطنية من اجل الشعب, اقتناء التكنولوجيا, السلم الداخلي, حل المشاكل الداخلية وانهاء الصراعات الداخلية الاستنزافية, محاربة الأمية (هناك 130 مليون انسان أمي في بلادنا) وقضايا أخرى ملحّة ومهمة أمست في عداد الخرافة والكوميديا. كنا نتوقع ان تنفض حماس يديها من العنف وتبدأ مرحلة جديدة للفلسطينيين, لإعادة العافية لهم وهم المنكوبين المحرومين من الحياة.
لقد عومل الفلسطينييون في الدول العربية التي لجأوا اليها اسوأ معاملة لا تليق بالبشر. ولا أعرف مالذي كنا ننجزه لو رمى العرب اسرائيل في البحر منذ عام 1948 ؟ إن مناطق كثيرة في العالم, كافريقيا, تعيش بلا اسرائيل لكنها لم تنجز شيئاً لأنها مثلنا لا تملك اي تخطيط واستراتيجية وعمل دؤوب للحياة كما الأمر في بلاد الغرب والدول المتقدمة في آسيا.
ولو كان العرب والمسلمون (وهذا رأي أعرف لا يعجب الكثيرين) اعترفوا باسرائيل منذ البداية لوفروا على كاهل الأجيال أكلاف الخسارات وعواقب الهزائم المتلاحقة التي أصبحت أكبر عائق امام التنمية الوطنية والقومية. العنف وحده والتطرف والهلوسة أدارت رحى تفكيرنا لعقود طويلة, لكنها لم تزودنا إلّا بخسارات أكثر وانهيارات أثقل سبباً وأحلك ليلا.
اليوم اسرائيل اقوى بكثير من السابق ومعها دول العالم. اما الفلسطينييون فيكفيهم ما هم فيه من ليل سيكون عليهم غداً ثقيلا. انه تراجع وهزيمة نكراء ان يضرب الأخ أخوه والشعب يتضور جوعاً.
إن اكثر ما نخشاه ان تقوم حماس, بعد القضاء على حركة فتح, كما يبدو لنا في جري الأحداث بمغامرة مهلوسة شاملة ضد اسرائيل فيخسر الفلسطينييون البقية الباقية من وطنهم وحلمهم. إن اكبر درس نتعلمه من حماس والحركات المسلحة اسلامية كانت او قومية او علمانية, أن العنف والتطرف والصراع لا يخدم الدين والقوم والانسان لا اليوم ولا في المستقبل. يجب ان نتوقف جميعاً ونفكر بهدوء عميق ان ما يجري في بلداننا جنون وخزي لا ينفعنا في الدنيا ولا في الآخرة.
عزائنا في هذه المحنة القاتلة وجود تجارب محمودة راقية في دولة الامارات العربية المتحدة بقيادتها الحكيمة, ومشاريع فردية عملاقة اشرنا الى النزر اليسير منها في مقالات سابقة نُشرت على الايلاف.
- آخر تحديث :
التعليقات